تمهيد
الكتابة في ظلال ملامح من السيرة الذاتية
إستعادني هذا التمهيد من منعرجات الفصل الرابع، فقد بلغ الإنغماس في الممكن والممتنع في التوق إلى تحقّق الكينونة، وتحقيق الذات، مستوى يستدعي الذاكرة التي تحفر في أخاديد الشخصية التي تتعامل مع خصوصيتها، لكن من خلال شخصيات الآخر، فتجد نفسها في تقاطع واحتكاك، أو في ابتعاد وتمايز.
أشارك القارئ بحقيقة أنّي لم أفكّر يوماً بمقاربة السيرة الذاتية، وفيما أنا في هذا النص تراني أكتشف أنّ هذا اللاإكتراث مرده إلى أسباب عدّة تتوافق على مسارين: فأنا تجربة لا تزال منخرطة في رحلة تحقّقها، فهي متماهية متحايثة في الآخر. كنت قبل رحلة المؤسّسة الجامعية منصرفاً إلى حدّ إنصهار الأنا الإجتماعية في هوية الجمع على مستوى ضيعوي شديد التفاعل بين الأنا والآخر، عبر العائلة والتقليد وجوهر الإيماني الديني واحترام الآخر ومحبّته.
سوغ لي ذلك فرصة لا تقدّر بثمن، فقد حظيت بنعمة إلى الإنفتاح، إلى تقدير معنى الإنسان، إلى تحرير النفس، في توق مسكون بمعنى الإقتدار. وكان للذات تجاوز، إلى حدٍّ كبير، لكل ما يعيق تحقّقها في الآخر وفي الهوية الإجتماعية، فالإنبثاق في إرادة الإقتدار هو ترجمة الخصوصية في الفكر والممارسة، وهو انعكاس للهوية الجمعية في تحقّق المفهوم الجمعي للشخصية الجماعية في السيرة الذاتية. أمّا حبّ المعرفة فوجد طريقه مع عمق الحجّة التي كنت أصغي بالنفس والبصيرة إلى أصدائها، فأقاربها بلغة المنطق، وأحلّلها بما تيسّر لي من معشر العقّال الصالحين، وقد تنوّعت صفات المثل الصالح على درجات من الفضيلة والمعرفة والتقوى؛ وقد امتلكتْ قلّة المهارة في التعبير، آخذة على نفسها مسؤولية الموعظة الصالحة والكلمة الخيّرة؛ واحتلّ البعض الآخر موضع القدوة، والمرآة الصالحة، وهم قلّة تشدّني إليها معانٍ وتستحكم في علاقتي بها عين على التعامل مع الذات ومع الآخر، وعين على منهج الإجتهاد في دروب مفاتن المعرفة، مع احترام للذات، واحترام للآخر دون مواربة أو مهابة.
أمّا مع الرؤية التي تجذّرت مع الجامعة، فإنّي لأوفر حظّاً في تحقيق قسم وافر من مصالحة الذات مع نبض الحياة وشغف النجاح، لكن بمسار منحاز إلى روح التطوّر والإنفتاح ومسالك العرفان وروح البحث عن خيارات جديدة، حيث لا مجال للتقليد الأعمى ولا للفكر المتحجّر.
أكتب عن الذات فيما تزدحم فضاءات التواصل بالتجربة البشرية في دخول الفضاء العمومي، وفيما يشهد العالم، لحظة بلحظة، على اتّساع حقل استخدام الرقمنة والعصر السيبراني، فإنّ التسابق إلى وسائط التواصل الإجتماعي هو حلبة التحوّل إلى علاقاتٍ جديدة، وبحث مستفحل عن موقع في العالم الإفتراضي الجديد.
والأمر ليس مجرّد مسرح جديد للحياة الإفتراضية، من حيث سيطرة إسقاطات المتخيّل، والمستبطن على العلاقة بالآخر؛ فمع ساعات الفجر استعداد ليوم جديد، صورة جديدة لمشهد متبدّل على مستوى العلاقة بالواقع أو بالمتخيّل؛ وعند المساء وقفة مع محطّة لتقديم الذات في قوالب تتبدّل حسب الظروف، وعلى قدر الإلمام بلعبة الميديا وتقدير الذات، في علاقة تدخل النرجسية فيها من خلال الإعجاب المتبادل عبر الفضاء. فنحن في عصر مفتوح للتناغم مع حب الذات، دون حاجة إلى اختبار أو هوية مسبقة الإنجاز.
كتابة السيرة الذاتية عبر الآخر فيه من الواقعية ما يفتقر إليه نشر السيرة الذاتية بالمباشر بعد صوغ منقّح منشود. فالسيرة الذاتية هنا هي تحقّق شخصي، ليس فقط في تلافيف الذكريات منذ الطفولة، وحديث النجاحات، وبعض الملامح من الإخفاق لدعم رواية النجاح والنجاح؛ ففي البحث في ظلال السيرة إشباع للإحساس بمتعة المصالحة بالذات في توليفة تجمع إلى الطبائع ما يلاقيه المرء من حضور في الآخر وقبوله للآخر فيه، من حيث اختبار لإنبثاقه في فضاء العام، بل وبصورة أكثر أهمّية في فحص باطنيته من خلال حضور الآخر، فعلاً وممارسة وصداقة ورؤى، في ظلال الرحلة إلى التحقّق بالرمز والذات والإنصهار.
نستعيد ذاتيّتنا في كلّ يوم في لعبة الإيجاد والإنوجاد، فقلما توقفنا، بما يكفي من الإمعان عند حكمة اتخذها سقراط نهجاً حياتيّاً: «إعرف نفسك بنفسك تعرف العالم واللاهوت». واكتشاف الذات شرط لإكتشاف العالم، ومن الأمثلة المرتبطة بالعلم والمعرفة أنّ الطبيب النفساني لا يمارس مهنته إلّا بعد خضوعه للتحليل النفسي من طبيب آخر، ماهر وكفؤ.
والكتابة عن الذات في بحور الكينونة الأنطولوجية تحمل الدعوة إلى مراجعة اختيارية لعلاقة الماضي بالحاضر، لا بل برؤانا للمستقبل، وإتمام هذا الأمر في حينه وبمنهج علمي يجنّب حالات الكبت والضغوط النفسية؛ ذلك أنّ اكتشاف الذات ومصالحتها يفتح على تحليل خواصها ضمن الحرّية بين الممكن والمستحيل، فيحفظ للنفس ماهيّتها ويوفّر لها تواصلية حيوية بالعالم الخارجي.
لا تخالنا عبر هذه المقاربة بقادرين على تحرير الكتابة في ظلال السيرة الذاتية من الإيديولوجيا المتلبّسة بالفكرة وبسياق النص. فكتابات نيتشه وجان جاك روسو مع حضور السيرة الشخصية أو بتلميحاتٍ بها ليس في معزل عن الإنتقائية والنرجسية. وليست كتابة الكاتب عن الرحلة منذ الطفولة هي الحقيقة التي كان يمكن أن يعبّر عنها الكاتب صغيراً، بالرسم والفن أو السلوك أو الخيارات، وربّما كان من المفيد الإهتمام بالأرشيف الشخصي منذ الطفولة المبكرة، كبصمة شخصية لمعرفة الذات وخواصها في بيئة معيّنة.
لا أخفي في هذا التمهيد إحساسي بالحضور الإيجابي عبر الهوية التي وجدتني متصالحاً معها، فهي، على ما يبدو ينبوع للتزوّد بروح القناعة بما يضغط لانتزاع الذات من سياقها المفكّر، وفي النشأة مصدر للطموح مرتكز إلى مثابرة إستثنائية مؤداها نجاح بالدنيا وفوز مبتغى بالآخرة. وأمّا الكفاح في دروب العلم فهو مسار لا يتوقّف، فنحن من جيل يرفع من شأن المتعلّم، آمال ورهانات المجتمع، ويخلّد ذكرى ميامين آمنوا بالإنحياز إلى خيارات العلم، ولي منهم حظّ وفير.
الكتابة عن الفرد في الإنوجاد والفاعلية هو مرآة لرحلة صراعية في بحر متلاطم الأمواج، ويبدو أنّ من حظّ أولئك الذين لم تمنحهم الحياة الرفاهية وسهولة العيش أنّهم قد حظيوا بشغفٍ وروحٍ متحفّزة للفاعلية الوجودية، ومن بينهم قلّة توافرت لها القدوة الطيّبة والذات الخلّاقة بين عقل صحيح وجسم سليم. تحضرني مسألة الأنطولوجيا بين النشأة في بيئة سليمة كنّا نقتبس منها الموعظة الصالحة وسيرة نخبة من الأعيان الذين جمعوا إلى مدارك الرحلة قوّة العزيمة، وكنت من محصلتها محظوظ بنتائج مبينة، والشجاعة في العزيمة رديفها، والحكمة قرينتها في النجاح.
وقد كان لي نصيب من قران الشجاعة وجرأة القول، والإندفاع في العمل مع الصبر بالحكمة والإيمان، وهو نبض حاضر بين الذاكرة والمعنى، وفيه ليس فقط خصوصية معرفية سلوكية، بل إلمام بالعاطفة النبيلة المتجذّرة في عطاء دافق لعقود وقرون. وما ينتاب الرحلة من محطّات أمام المعنى وقيم الثقافة يستعيدنا يوماً بعد يوم إلى واقع، قد لا ننشده، لكنّه أمر واقع، من حيث تغمر الحياة الجمعية متاهة الإنقسام بين فئات من أهل العلم والتقوى، ومجموعات تابعة تائهة في دروب الجهل، متجاهلة أو عاجزة عن الوصول إلى مستوى مقبول من الحقيقة.
لم يصقل فينا المنهج حب البحث بالمعنى المدرسي، وقد كان الموضوع عرضة للتقييم في ضوء التجربة. وكان من نتائج الرحلة في بحور المعرفة العودة إلى تمحّص جوهر الموضوع؛ هل كان هذا الإفلات من المنهاج التقليدي نعمة أو نقمة؟ حيث أعترف أنّي لست ممّن نشأ على الإنشداد إلى كاتب أو أديب بطريقة إتّباعية، ولم أقع في أسر أستاذ أو معلّمة، وكنت أرى فيهم بعضاً من علم يدأب على استخدامنا أداة لصقل تطوّره، بالرغم من علاقة احترام ومودّة وامتنان للكثير منهم في كلّ المراحل.
تجمعني بحبّ الكتابة دوافع تبلورت في بحث عن إشباع نهم، فرحت أغوص في قراءات لم أفهم معظم مدلولاتها في سن المراهقة، وكانت تجربة قصيرة في التعليم اكتشفت خلالها طبيعتي اللانمطية، ولم أسع يوماً إلى وظيفة أو نمط، بل كان البحث عن جديد سرّاً مفرداً. لحسن الحظ أنّي لم أرضخ، في نهاية المطاف، لأطر مؤطرة في جمعية أو مؤسّسة حزبية بعد تجارب وبحث عن تموضع. وممّا لا شكّ فيه أنّ تجربتي النضالية، إن صحّت التسمية، في مواجهة الإحتلال، والتي تخلّلها شهور من الإعتقال، قد عمّقت عندي معاني الإلتزام.
كان محمول الرحلة مشحوناً بخلقية النجاح، وأخلاق الإنفتاح مسكوناً بتعلّق بجماليات الدنيا، وبطيف الروحانيات الأمينة المؤمنة، وبقدر ما راقت لي كلمة سواء، وحكمة التصرّف، ورجاحة العقل في المرجعية الموغلة في تاريخ الإنحياز إلى العقل والعدل؛ وبقدر تناغمي مع إيقاعات أجراس المحبّة، والدعوة إلى التجدّد؛ ومع أنّ أعزّ اللحظات إلى روحي أذان صادح بالإنسانية والرجاء، على قدر أهمّية كل هذا، فإنّ ما يبعث على النفور هو الإيديولوجيا التي تسخّر الدين على نقيض جوهره، وفئة تسخّر الإيمان لمصالحها.
بهذا المعنى جاء العمل على مجموعة الأبحاث السابقة، وها هو البحث في الذات يؤرّخ لحقبة جديدة في مرايا تتعدّد فيها مفترقات الرحلة، وتتلاطم أمواجها التي تنساب في طمأنينة في بوتقة عائلية تتجلّى فيها المعاني الوجودية ويحكم العقل والرضا
مسارها، وفي اليوميات لقاء مع الحياة التي نكتب مفاعيلها في هذا العمل. ومن هذه الصور ننتقل إلى كتابة الفردي الآخروي في العالم المتماوج في رحلة الكينونة الصراعية.
فبين منعرجات العلاقة بين الذاتية والعمومية خلاصات لمشاهدات نعيشها في عصر التحوّل بالإفتراضي إلى الفضاء العمومي، النفوس تتحفّز لتنبثق خارج أسوار التقليد، والمجتمع يترنّح بين قدم العادات وترهّل الضوابط ومشروعيتها. إنّه بحث فرداني عن النفاذ من النفق المنغلق إلى الفضائية التواصلية العمومية. لكن الرحلة محفوفة بمخاطر القصور المعرفي، وقد كنت من المتنبّهين دوماً لردم الهوة المعرفية عبر الإبحار على مركب الثقافة.
والرحلة متشظّية بين تنامي حس بالحرية المسؤولة لدى البعض وسقوط البعض في فخ النرجسية الإفتراضية. فقد غابت المعايير واختلّت التوازنات؛ وأنا من أولئك الذين يصيبهم النفور والإشمئزاز من وقوع أعزّاء ضحية العصر ومنصة اللايك. ولا أعرف حتّى الآن مسبّبات النفور لدي من تواصلية من جانب واحد، أو دون معايير، أو من البعض يستخفّون بالآخر عبر فضائية مفتوحة في اللاحضور، وفي غياب النقاش والحوار. لكن ما لا يمكن إنكاره أنّ الإفتراضية المعاصرة باتت أمراً واقعاً، وباتت حقيقة التواصلية العمومية نمطاً مسيطراً.
بين الواقعي والمتخيّل، أسئلة تتصدّر رحلتنا الوجودية:
من نحن؟ كيف يتحدّد الـ هو في ما نحن عليه؟ ما هي العلاقة بين ما هو نحن في الواقع ومن نحن في الممكن؟ مقدّمات استفهامية تفتح على مدخل إلى بحور من أسرار في مراكب الرحلة. في الرحلة عبور في ظلال السيرة الذاتية، ليس تقييداً للبحث بالتزامات مسبقة، بل محاكاة لتيسير التواصل مع الإفتراضات التي تساعد في الكشف عن جوانب ذات طابع شخصي، يستبطن قدرات الذات ونشأتها على الخاصّية البينذاتية وتجيير اقتدارها في الفاعلية في العلاقة مع الآخرية. وممّا يستدعي الإهتمام في تقييم سمات الشخصية العربية ما شهدناه من تمرّس للذات بين بنية وعيها، معبّراً عنها بالنفاذ إلى الإدراكات الذاتية والثقافة المستفادة؛ فضلاً عن تكيّف الممارسات والسلوكيات مع الثقافة العامّة والعادات والتقاليد، وبين هذه البنية والمركب الإجتماعي السلطوي تجدنا في دائرة تفاعلات حول موضوعات الإنضباط والضبط الذاتي وتقدير الذات واحترام الآخر.
تضعنا هذه العناوين، في حال القراءة المقارنة للتجارب الإنسانية، أمام تحدّيات متفاقمة. ليست الأزمة التي تواجهنا هي إشكالية الواقع المعيش في الإنغلاق على حرّية التعبير، وبالتالي، سدّ مسارات التطوّر؛ فمن الملفت أن الفكر التحرّري يتحرّك ما بين التقليد الغربي، أو السلفية، ولا أعتقد أنّ المحاولة للتفكير بالروح النقدية في البنى الإجتماعية الفكرية السياسية الضاربة في باطن التاريخ العربي هي الحل.
من هنا أهمّية التفتيش عن الإنسان والشخصية الإنسانية كنقطة استكشاف للواقع ولمنفذ إلى ضوء التغيير بمجهر الفكر النقدي. هذا الإنسان الذي يشكّل تحرّره من الخوف الخطوة الأولى نحو تكريس حقّه بالحرّية والتميّز، فنحن هنا إزاء معضلة سلطوية من خلال القمع والإقصاء في ظل ممارسة الموقف السياسي بأقنعة متنوّعة، أكثرها جلاء اللجوء إلى الإقصاء بإسم التقاليد؛ وأكثر المواقف تعسّفاً حين يتمّ تحويل النقاش في مسائل تفرض ذاتها إلى قضايا رأي عام. أسئلة الخوف والخضوع مسائل عميقة الدلالة، ليس أبسط تجلّياتها مفهوم التقية، الذي يتجاوز الإطار الديني إلى حقيقة سوسيولوجية.
في موضوع الشخصية ومجادلة الدعوة إلى استجلاء الطريق بالعودة إلى البنى المتجذّرة، ترانا راهناً أمام سؤال مصيري: ماذا يمكن للشخصية العربية أن تحقّقه لذاتها، إزاء التحوّل التاريخي من مسارات التواصلية المحدّدة باتجاه التواصلية في فضاء عمومي عبر العصر الإفتراضي.
من قبيل الوتيرة المتسارعة، فإنّ أسئلة كثيرة يأخذنا إليها هذا الأداء المتنوّع، فهو أداء يكشف لنا هويتنا الثقافية في التعامل مع الآخر، وهي أسئلة تحمل على الغوص في النماذج الشخصية التي تتفاعل في الفضاء الإفتراضي. فنحن نأسف لحال تجارب سخيفة سطحية، أو نأمل خيراً بعصرٍ جديد وبفاعلية للتحقّق على منصّة لا وجهة عامّة لها إلّا في روح العصرنة.
إنّ هذه العناوين تحدّد خصائص الشخصية العربية وتلعب لعبتها في تفسير الطبيعة الخاصّة التي تفتح على ماهية العلاقة بين الفرد والمجتمع. السؤال الذي ترانا نواجهه في يومياتنا يتعلّق بالخلل في هذه العلاقة، فنحن نتشاكل مع هوية متشظّية بين انسلاخ الفرد عن المجتمع وتوجّس من أصناف التأثيرات السلبية لعلاقة تنافر في المجتمع، متآنسة مع الأنانية والحسد والعصبيات التي تتجلّى في المذهبية أو العرقية أو القومية أو العشائرية والعائلية. وهي وقائع تجتمع في البوتقة التي تؤسّس لأزمة الشخصية وعجز الإنسان عن الإنفتاح على مسارات التطوّر والإنسياب في سياقات التغيير.
Submit your review | |
1 2 3 4 5 | |
Submit Cancel |