البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الأولى 1 من 3) قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث توفيق المديني

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الأولى 1 من 3)

قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:السبت، 21 ديسمبر 2019 06:11 م بتوقيت غرينتش

قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث

كتاب يدرس تاريخ العولمة وأسسها الفكرية والسياسية (عربي21)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية
الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، 359صفحة من الحجم الوسط).

أسئلة تطرحها العولمة.. بين يدي الكتاب 

يعيش العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط المنظومة الاشتراكية عام 1991، في ظل العولمة الليبرالية المتوحشة. ويطلق النقاد على هذه العولمة بالليبرالية الجديدة، أو الليبرالية العولمية، أو الليبرالية المتوحشة “ديكتاتورية الأسواق” و”ديكتاتورية تقنيات الإعلام الجماهيري”، لأنها عولمة بلا هوية، تجسد “توتاليتارية “جديدة متناقضة كليًا مع الليبرالية الكلاسيكية الغربية في مرحلة صعودها في أوروبا خلال عصر فلاسفة الأنوار.

لقد دأبت الأيديولوجية السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائدًا في روسيا السوفييتية ودول أوروبا الشرقية بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للأيديولوجيا، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع والإرهاب وافتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الانصهارية .

غير أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالاً وجنوبًا، والتي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية، وإنكار دورالدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره الإجتماعية (تحديدا في مجال التوزيع والعدالة الإجتماعية)، هيمنتها على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد الدولة وإضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة، برزت  في العالم الغربي إيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعا اليوم، إيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي .

ويترافق مع ازدهار الليبرالية الجديدة هذا، وحتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما، انحسار مهم لدور السلطات العامة بدءا بالبرلمان، وتخريب بيئي وتصاعد انعدام المساواة، وتسارع الفقروالبطالة، أي كل ما يمثل نقيض الدولة الحديثة و المواطنية. ونشهد أيضا فصلا جذريا بين تطور تقنيات الإعلام الجديدة من جهة، ومفهوم تقدم المجتمع من جهة أخرى .
ما هو جوهر الأيديولوجيا الليبرالية؟

ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية (1750 ـ 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور البشرية. فالليبرالية متناقضة جذريا مع الأيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الماوراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة. وهي ضد الوحي والميتافيزياء حين أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرّية وهي ضد سحق الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد. فقد جاءت الليبرالية كانتصار باهر على النظام الاقطاعي الذي ساد في العصور الوسطى، وهو النظام الذي كان يستند على الاستبداد والعبودية وقهر حرية الفرد وحقوقه وشكل حينذاك بمؤسساته وقيمه وعلاقاته عائقا أمام  تطور الرأسمالية في ظهورها .

ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية (1750 ـ 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور البشرية.

وهكذا، فإنَّ الأفكار الليبرالية هذه شكلت منظومة لإيديولوجيا متكاملة لليبرالية، التي عبرت عن مرحلة تاريخية محددة، هي مرحلة الرأسمالية الوليدة والصاعدة، وعن اتساق متطلبات تقدم البشرية مع متطلبات صعود الطبقة البرجوازية. ولم يكن من الممكن انتشار الأفكار الليبرالية في مختلف دول القارة الأوروبية، و في الولايات المتحدة الأمريكية لو لم تكن متفقة إلى أبعد الحدود مع حرية الفرد التي قادتها إلى محاربة الاستبداد على الصعيد السياسي، وإلى العقلانية على الصعيد المعرفي، وإلى العلمانية، وتحرير المرأة، والديمقراطية التي تشكل التخطي الديالكتيكي لهذه الليبرالية .

أما الليبرالية الجديدة، فقد جاءت بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة. وقد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها :

1 ـ تتسم  العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية باستقطاب الرساميل والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي بتركيز الثروة و الرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة ، خاصة في الولايات المتحدة .

2 ـ يزداد إفقار العالم الثالث وتهميشه وتتخذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعا همجيا .
3 ـ تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسا في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها  السياسية والعسكرية. ومنذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها، ونشر سلطتها في العالم الفوضوي الذي وصفه هوبس. والولايات المتحدة لاتثق بالقانون الدولي

ولا بالمواثيق الدولية، و هي تنظر الى تحقيق الأمن, كما الدفاع عن الليبرالية الجديدة، عبر حيازة القوة العسكرية واستخدامها.

في كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “2020 ومابعد! إشكالية حضارية في عولمة بلا هوية”، للكاتب الباحث الدكتور حاتم علامي، والذي يتكون من خمسة فصول كبيرة، يتناول فيه مسائل شائكة كالحضارة، والعولمة والهوية، إِذْ يشهد العالم سباقاً محموماً بين عدة اتجاهات إيديولوجية بشأن التحديات الحضارية الماثلة على الخارطة الدولية. 

منذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها،

وفيما يرى الكاتب أنَّ الخيار الوحيد للعرب يتماهى مع تطلعات تتمحور حول تعزيز فرص التواصل والانفتاح والحوارمع العالم الخارجي، يشهد العالم بالمقابل في ظل العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة سباقًا محمومًا للتسلح، وتفاقمًا للنزعات العدوانية وللتسلط والاستئثار من جانبي القوى الدولية الكبرى، علمًا أنَّ  العقود الأخيرة شهدت أحداثا أساسية كانت وراء الأسئلة الراهنة، في ظل اكتشافات علمية مهيبة لصالح الحضارة وتغليب منطق العقل والتطور.
يقول الباحث حاتم علامي: “ماذا يحمل معه الـ 2020 اصطلاحاً لرمزية العشرين في عشرينية التكوين، وعشرينية الأقاليم والجزر والأرض، وفيزيولوجية التكوين البشري، في ظل التفسير الذي يعطى للصفر كرموز للخلود والقداسة، والإثنين كرمز للثنائيات مصدر الأمل”.

ويضيف: “ماذا تخبئ العقود التالية من القرن، وهل التنبؤ هو اختزال لعجز الإنسان عن مواكبة التطور بالعلم والاكتشاف الذي شهدت البشرية نماذج مرغوبة خلال تطورات التحديث والمدنية، وعلام تنطوي تداخلات الإيمان و الثقافة و إبستمولوجيا العقل والانتظام المعرفي والمنظومة الدينية إزاء ثلاثية الحداثة و الحضارة و العولمة، وماهومصير الهوية في مد وجزر بحر هائج بالتحولات”(ص 10 من الكتاب).

لقد توسع الباحث في هذه الدراسة، وتطرق إلى عدة محاور وعناوين، بعد أن أخذ موضوع البحث إلى امتداداته في كنف الفضاء الحالي الذي يجري في ظله تطور قضايا وجودية بالتلازم مع صياغة مفاهيم تعكس المستوى الخاص الذي بلغه تقدم العلم مؤسساً لنظرية فلسفية جديدة. لذلك جاء تداخل هذه العلوم ليؤمن فرصة جديدة لمقاربات شاملة، تجمع إلى مواجهة تحديات الحاضر، رؤية لخلق مسارات إيجابية في كنف التطور المستدام للتعاطي مع ضرورات ذات علاقة بالإيجابيات التي تحققت وملت معها في الوقت نفسه تحديات حقيقية جديدة. 

وينصب البحث على تجاوز الأطر الضيقة في المكان والزمان، حيث إَنَّ أحد وجوه الأزمة التي طغت على حركة الفكر العربي تتمثل في انحسار مدى الأبحاث التي حالت دون إيجاد مخارج لأزمة الواقع العربي، حيث تركزت على أعمال وأفكار بدلاً من الاهتمام بتجاوز الأطر والأبحاث القديمة، وربما كان الأمر ناجماً عن الاهتمام بالبحث عن مكان في الصف الأول على مقاعد الوقت الضائع، ولذلك جاءت أعمال الترجمة في المقدمة، بحثاً عن تظهير لأزمتنا في الفكر العالمي الموسوم بالتقدم العلمي والفكري الذي جاء مدعماً منذ عقود بنتائج العولمة والتكنولوجيا.

يقول الباحث حاتم علامي في هذا الصدد: “لقد ذهب الفكر العربي بعيداً في البحث عن ذاته داخل أسوار الحضارة العالمية بمقاربة تستند إلى توليفة تاريخية شمولية الطابع، دينية المضمون، ليبرز السؤال هنا عما إذا كان هذا البحث في استخدامه للأدوات المعرفية التقليدية للفكر المترنح بعد قرون يفيد في كسر العزلة المستمرة، أو أنه يؤدي إلى التقهقر والضياع ويخلص إلى تسليم مفاتيحه المعرفية إلى الحداثة المتغربة صرحها الثقافي الغربي المتعايش مع حضارات العالم بدرجات متفاوتة، في ظل سيطرة طابع المواجهة مع الحضارة العربية الإسلامية المتشاكسة مع ذاتها ومع الحاضر المستقبل بألف سؤال وسؤال”(ص 15 من الكتاب)..

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (2الحلقة الثانية  من 3)

الأصول العقلية المعرفية للعصر الحضاري في زمن العولمة

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:الإثنين، 23 ديسمبر 2019 03:00 م بتوقيت غرينتش

كتاب يقارن بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية (عربي21)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية

الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، (359صفحة من الحجم الوسط).

يشكل الخوض في الأسس العقلية المفهومية للحضارات أحد الخيارات التي يتحتم اللجوء إليها لاستكشاف العمق المعرفي لحضارة ما، وفي موضوع هذا الكتاب، يقدم الباحث إضاءة مقارنة على الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية، ومن منطلق نزع الادعاءات القائلة بحتمية سيطرة حضارة ما على الحضارات الأخرى كشرط للحفاظ على الاستقرار والتقدم.

وتنجلي من هنا أهمية ترجمة صور التنوع الحضاري إلى سياسات ومواقف من قضايا الإنسان ومشاكل المجتمعات، وبالتالي رفض محاولة تكريس مفاهيم تقوم على تبرير سياسات الإخضاع بأشكالها المختلفة لتحقيق هيمنة حضارة ما على الواقع الراهن، وتأكيداً لمزاعم حتمية صدام الحضارات، حتمية مواجهتها مع بعضها البعض كنتيجة لتطور الحضارات الذي يختزن أسباب هذه المواجهة.

نشوء الحضارات

إِنَّ المقاربة التي تستند على تحليل المكوِّن العقلي المعرفي لنشوء الحضارات تشكل تحريراً لديناميات الشخصية الحضارية من إسقاطات هذه الإيديولوجيا، من خلال تحليل مضامين المرتكزات المفهومية، والتي تعتبر نتائج دورة زمانية غير منقطعة عن الطابع الإنساني، ولاسيما بالنسبة إلى ما يخص تلازم هذه الشخصية مع البيئة والعوامل المفاتيح التي ترسم اتجاه حضارة ما. 

ففي حالة الحضارة الأوروبية التي شكلت أساس حضارة الغرب يدور السؤال حول العوامل التي أدت إلى نقل حضارة عصر التنوير المستندة إلى الإكتشافات العلمية، والدعوة إلى تحرير الإنسان لنبذ كل أشكال العبودية على قاعدة علمية إنسانية أخلاقية تنافي مبادؤها مقولة التفوق الحضاري القائم على مفاهيم الغطرسة وسياسات تستهدف احتواء الحضارات الأخرى إخضاعها مصادرة هويتها.

في هذا السياق ، يقول الباحث حاتم علامي: “إذا كانت المقاربة تهدف إلى استكشاف المقدمات والمقومات لنشأة الحضارة الغربية، فإنها في سياق التحليل تسلط الضوء على الواقع المأزوم للحضارة العربية الإسلامية، وتُمِيطُ اللثام عن حالة العقل العربي والنظام المعرفي العربي إزاء الأسئلة المصيرية التي تطرحها المرحلة التي يعيشها العالم، والتحديات الماثلة أمام المجتمعات العربية الإسلامية والإنسان العربي عموماً في انتمائه إلى الحضارة الإسلامية”(ص 28 من الكتاب). 

من هنا يبدأ الباحث كتابه بتوجيه مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالعقل والنظام المعرفي، العقل والعقل المجتمعي، المواجهة العقلية للتحريف الإيديولوجي، وصولاً إلى قراءة في الشخصية الحضارية من خلال الأبعاد السوسيوثقافية.

التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي

يقدم الباحث تحليلاً عميقًا لأفكار فلاسفة الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لا سيما في  قضية الحرية، ومفهوم العقل الذي ارتبط عندهم بنبذ الخرافات والأساطير التي شكلت عائقًا أمام القدرات الطبيعية للإنسان. وفي دائرة هذا البحث يركز الباحث على ارتباط ذلك كله بالعقل الاجتماعي وفكرة التقدم بوصفها تعبيرًا عن إعمال العقل، بما يؤدي إلى التقدم أي التحول التدريجي من الأقل إلى الأفضل. ويشكل هذا التوقف عند العقل والعقل الاجتماعي والظواهر والأفكار المرتبطة به دحضًا لإيديولوجيا صدام الحضارات التي تستثمرها سياسيًا في التوازنات الحالية والتغيرات التي رافقت قرونا من الاستعمار.

وكما يقول الباحث حاتم علامي: “إِنَّ السياق نفسه يشكل مدعاة إلى التعامل بمنهجية نقدية ثورية مع المأزق الحالي الذي يعيشه واقعنا العربي، ونجد هنا أن الإضاءة بأنوار القرن الثامن عشر على الوقائع الراهنة تؤشر إلى التداعيات السلبية لغياب البيئة التي تخلق حافزاً ومدعاة لاستنهاض الإنقلاب على الركود الحاصل. وإذا كانت محورية العقل تشكل الأساس في فتح الأبواب أمام حوار جدي ومسؤول فإِنَّ التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي”(ص33 من الكتاب).

ويعتقد الباحث أنَّ موضوعة السلطة، والعمق السياسي، الارتباط بين هذه العوامل، ومسألة الخلافة وتداعياتها مع أحداث القرون السابقة، تشكل دلالات على إنغلاق النظام المعرفي العربي وإقامة الحواجز المعيقة للمحاولات التي جرت حتى الآن، سواء كانت هذه المحاولات صحيحة في اتجاهاتها ومنطلقاتها ومراميها، أو كانت خاطئة من حيث قفز معظمها فوق خصوصية الثقافة الإسلامية وتماهيها مع كينونة هوياته مستلبة في كنف الإنجذابات المتنافرة حول الخيارات، وقيم المستقبل غيرها من القضايا الشائكة التي تمس مسارات التعاطي مع التحديات.

من هنا ركز الباحث على الرابط بين النظام المعرفي وتطور الحضارات، بإبراز الإمكانات المتاحة لإيجاد مخرج للتخبط الذي أوصل إليه قراءة السياق العام لتطور الحضارات قراءة خارجانية، وقد عكست هذه القراءة مرحلية متمثلة بحقيقة تعكس سيطرة قطبية أحادية في المنظومة التي تحكم العالم، وتوجه أحكام الإنسان بصورة متلازمة مع حقيقة ا لعلاقات التي تطورت بين المجتمعات.

من هذا المنظار وبناء على القوة التي تتحكم بالنظام الدولي القائم أحادي القطبية، والمتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، يرى الباحث أن هذه الأخيرة تسعى إلى فرض نموذجها الحضاري على الصعيد الكوني، وتعميم النمط المغرّب أو المُؤَمرك من أجل تحقيق اندماج قسري للحضارات والثقافات ضمن النموذج الأحادي السيطرة في العصر الحالي.

الدعوة إلى العقلانية لتجاوز عقدة الهوية 

منذ عدة قرون والعالم يعيش في كنف الحداثة والحضارة الغربية، وتعرضت البشرية لثلاث صدمات كبيرة، الأولى لـ “غاليلي”، حين اعتبر الشمس مركز الكون، والثانية لـ “داروين” حين اعتبر أن الإنسان متحدر من الحيوان، والثالثة صدمة “فرويد” بأن ما يتحكم بالإنسان ليس وعيه بل لا وعيه، وأضاف جورج طرابيشي صدمة رابعة التي أحدثها الإنسان الغربي للإنسان الشرقي خلال خمسمئة سنة.

انعكست هذه الصدمات على هوية الإنسان الشرقي، فما هي بالتالي ديناميات العلاقة بين الهوية الوجودية والسياق الحداثي المطرد؟ هذا السؤال يشكل حلقة وصل مع تداعيات المسارات الناشئة عن الحداثة ضمن الفضاء الحضاري في عصر العولمة .

يرتبط تحدي التطور الحضاري بأسئلة الكينونة والهوية وصيرورة الحداثة، وتشكل الثقافة عصب النورانية التي تمكن الفكر من النفاذ إلى طرح الأسئلة المنطقية المصيبة، حيث يرتبط سؤال الصيرورة الحداثية العربية بالدراسات المقارنة التي ازدهرت مع تموضع الحضارة العربية، وفي تمظهرها على الخارطة الدولية باعتبارها الحضارة الإسلامية، وباتت المفاهيم التي شكلت فاعليات السياق الحداثي على الصعيد العالمي عموماً جزءًا ملازماً، بل أساساً لتداول الموضوعات والمفاهيم الخاصة بالصيرورة الحداثية العربية.

الفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه.

تشكل قضية البحث عن الهوية نقطة الارتكاز التي استقطبت الاهتمامات الخاصة بعنوان الحداثة العربية، باعتبارها تمظهر لعلاقة الأنا بالآخر، من هنا أهمية المعادلات التي حملتها المابعد حداثة لخلق صيرورة جديدة للفكر العربي ، والتي تشكل فرصة للإنخراط في الحقبة الجديدة، التي تغيرت معها أساليب القرن السابق وتداعياتها على مأزق التخلف.

يقول الباحث حاتم علامي في الردّ العربي ـ الإسلامي على الصدمة الغربية: “إن إحداثيات الصعود الغربي للتربع على عرش الحضارة العالمية تمثل صورة المحرك لتركيز الانتباه على إشكالية البحث عن الهية، فمن المعروف أن غزو نابليون بونابرت لأرض مصر شكلت الإندفاعية الإستعمارية الغربية باتجاه الشرق عام 1789 فكانت الصدمة التي هزت الهوية الإسلامية في بديهياتها وأربكت مرجعيتها، فظهر منذ ذلك الحين حوار حضاري بالوكالة بين أبناء الأمة الواحدة، وسجل تمسك بمبادئ الإسلام شرطاً للنهضة في التعامل مع إحداثيات التطورات الحديثة في مقابل الرهان على الارتماء في أحضان الحضارة الغربية كشرط للإنطلاق الحضاري، حمل هذا الإنقسام مجموعة من الثنائيات تحت عناوين مختلفة كالأصالة مقابل الحداثة، والتراث مقابل المعاصرة، والرجعية ضد التقدمية، وهي ثنائيات تستمر في الخطاب الثقافي العربي ملتفة بنسيج أيديولوجي متلبسة بانتماءات فئوية تحت جنح التطورات التداعيات المتلاحقة”(ص 207 من الكتاب).

مع استمرار التجاذب الفكري، تحت مظلة ظروف المنطقة العربية، فإِنَّ مفهوم الهوية لا ينفصل عن الأبعاد الثقافية الاجتماعية ارتباطاً بالعوامل المحددة لطبيعة المرحلة وتفاعلات العلاقات خلال حقب مختلفة تتسم بالطابع الخلافي، فهي بالنسبة إلى التيار المحافظ ترتبط بالخوف على ضياع الهوية ومسحها، والمساس بالتقاليد والعادات. والرؤية الثانية، أي الماضوية للهوية، هي التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و”الثقافة الشعبية”، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أوالدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أو الشعب أو الطبقة أوالحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلاً عن أنها مقولات غير تاريخية أو لا تاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في تونس الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.

فالفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من “ثقافةٍ” دينيةٍ تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأميركية، ومع الصهيونية والعنصرية ، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب العربية منذ عصر النهضة الأولى، منذ أزيد من قرنين، جهودًا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسًا قبيحًا وتعويضًا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف.

إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى “جوهر” وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية

والهوية بالنسبة إلى التيار الحداثي الذي نشأ في كنف التحولات الجديدة، وفي دائرة التواصل مع الفكر الذي برز مع هذه التحولات، تُعَدُّ مسارًا طبيعيًا وشرطًا للحفاظ على الهو ية المنفتحة على الحداثة لحجز موقع على الخارطة العالمية.فقد ارتبط مفهوم الهوية بالمشروع الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.

يضاف إلى هذين الخطين نظريات أفكار لتدوير الزوايا والبحث عن محاولات توفيقية وتسوية.

إن إشكالية البحث في الهوية تختزل مجموعة التفاعلات، حيث لا يمكن فصل عملية التفكر في علاقة الأنا بالآخر عن مجمل النظريات الفلسفية والأفكار التي ترتبط بثقافة الجماعة البشرية ولا بتراكمات اليوميات الحياتية المتصلة بتلبية الحاجات الإنسانية.

لقد تغيرت طبيعة التواصل بين المجتمعات على مستوى الدول والأفراد وساد مع انتصار العولمة الليبرالية المتوحشة ، بعد عقود من نهاية عصر الدولة ـ الأمة، نمط جديد وآليات جديدة، وتركت فاعليات التواصل الحوار ووسائل الإعلام وتطور الفنون ومشاريع السلام أثراً كبيراً في التصورات والأفكار التي كانت مدار اهتمام، وأساسَا لتكثيف الاهتمام بموضوع الهوية ضمن السياق الحداثي و التحديات التي طرحها المشروع الحداثي.

إِنَّ نقطة البحث عن الهوية ، لم يعد خارج السياقات الحداثية و الثقافية في دائرة الحضارة و التنوع الحضاري، والحال هذه فالمجتمعات العربية مطالبة بالانفتاح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، لا أن تظل سجينةً لعقدة الهوية، فهويتها ليس ما كان عليه ذات يوم في عصر الحضارة العربية الإسلامية فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما تريد أن تكونه في المستقبل، فسؤال الهوية ، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى “جوهر” وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردًا ومجتمعًا وأمةً.

 البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الثالثة 3من 3)

الحضارة بين رؤى معولمة وهويات مستلبة.. وجهة نظر

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019 03:28 م بتوقيت غرينتش

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي داعب الأمل أمريكا لتكون الإمبراطورية التي تقود عالم بعد الحرب الباردة (الأناضول)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية

الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، 
359 )
صفحة من الحجم الوسط).

إن حقبة من التاريخية الحداثية وسمت حركية الحياة على كوكب الكرة الأرضية منذ عصر التنوير، وبالرغم من تفاوت الآراء بشأن تأثيراتها ونتائجها على الجماعات البشرية، إلا أنه من المتفق عليه أنها أحدثت نقلة نوعية من خلال تعميم نموذج جديد استناداً إلى التماهي مع المشروع الحضاري الغربي، تمخض عن هذا التماهي إطلاق العنان للعولمة.

وإذا كانت الحداثة، قد أعادت الاعتبار إلى الإنسان وإعمال العقل بمعزل عن سلطة الدين، وكذلك تحويل الطبيعة إلى الثقافة، فإن السياق الحداثي ونتائجه التي عرض لها بالنقد معظم مفكرو القرن العشرين، قد تعرت أمام النظريات الجديدة التي دعت إلى ما بعد الحداثة. 

إِنَّ العولمة في هذا السياق تشكل المحرك الذي دفع بالعلاقات التي نشأت بين الحداثة وروحها الثقافية إلى دائرة المساءلة، فقد كان من الطبيعي أن تتجاوز تدفقات العولمة في سيولتها، وحتى انعدام وزنها مع اختراع الإنترنت، المضامين الحداثية التي تمركزت في رحاب المجال السوسيوثقافي، وبدا أن هذا المجال يتحمل وزر النتائج السلبية التي تمخضت عن إشكالية العلاقة بين العولمة الهوية. 

صيرورة الحداثة

من هنا يأتي السؤال بشأن صيرورة الحداثة ـ العولمة وطبيعتها وتداعياتها على هوية العولمة، وعولمة الهويات.

في هذا السياق من البحث المعرفي، يقول الباحث حاتم علامي: “يمثل عنوان النظام العالمي الجديد محور المسارات للعوامل التي ارتبطت بالعولمة، وتبلورت في المفاهيم والتطبيقات التي وظفت في خدمة جدول الأعمال المرتبط بالشعارات والبرامج التي دفعت بطاقة العولمة إلى أوجها مع التحولات الاقتصادية، والسياسات التي ترافقت معها لتكريس نتائجها بالتلازم مع مرحلة استثنائية على الصعيد العالمي حملت معها حقبة من الصراع في أكثر من ميدان. وصلت نتائج هذه المواجهة والتحديات إلى أوجها جاءت لتتركز حول مصير العلاقة مع الغرب، والعلاقة بين الحضارة والعولمة، وتداعيات المرحلة على مجمل المنظومة الثقافية التي اعتبرت جزء عضوياً من مرحلة الحداثة التي نشأت في رحمها العولمة، بأبعادها ومضامينها الاقتصادية الليبرالية، ومنطلقاتها السياسية تبشيراً بالديمقراطية، ومفاعيلها الثقافية باعتبارها انقلاباً في الأنماط التي كانت سائدة في انغلاقها ضمن حدود محلية وانتقالها إلى انفتاح على إنجازات الحداثة والانخراط في سياقاتها”(ص 267من الكتاب).

كانت الرؤية من لدن أنصار العولمة تقوم على انسجام هذه المكونات، على عكس ما آلت إليه التطورات على كافة الأصعدة، فلم تفلح القوى المعولمة في جعل العولمات عولمة واحدة، واتخذ الصراع السياسي وجهة جديدة تبلور مع سياسات السيطرة الهيمنة والتدخل في شؤون الدول والشعوب، ومنعها من ممارسة حريتها وحق تقرير المصير، مما أدى إلى انقسامات حادة فتحت معها أبواب جهنم أمام مشروع الاستغلال الإمبريالي، وبرمجيات استخدام دول ومجتمعات بكاملها في خدمة سياسات عنصرية استغلالية.

 انتصار العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة

تشكل الأحادية القطبية التي نشأت بعد انهيار الإتحاد السوفييتي سمة المرحلة التي شهدت انتصار العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، فأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قبلة الأنظار، وذلك عبر مستويين: المستوى الأول هو عملية النمذجة التي تقوم على اعتماد نمذجة الحياة كما هو في المصدر، ولاسيما بالنسبة إلى الفنون، على كافة أنواعها، وانتشار السينما، والإعلام الغربي، من خلال تأثير وسائل التواصل والإعلام.

المستوى الثاني هو مستوى استقطاب المهاجرين في كافة أصقاع العالم، ولا سيما من الجنوب، من آسيا والشرق الأوسط، بصورة واضحة.

 كان مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي طرحه الرئيس السابق جورج بوش في سنة 2004، مجرد استعادة حرفية لأهمّ طروحات التوجّه الاستشراقي سواء من جانب المحافظين الجدد أو من جانب المثقفين الصهاينة،منذ انهيار الشيوعية، وبالتالي انهيار القطب المنافس أي الإتحاد السوفييتي، داعب الأمل الولايات المتحدة الأمريكية لكي تكون الإمبراطورية التي تقود عالم ما بعد الحرب الباردة، وهو عالم بكل تأكيد شديد الإتساع والتنوع وَنزَّاع إلى الظفر بالديمقراطية بعد سقوط أعتى الأنظمة الشمولية. لكن الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية شديد الإفراط في قوتها العسكرية تفتقر افتقاراً كلياً إلى مشروع ثقافي وأيديولوجي تحتل فيه المسألة الديمقراطية مركز الصدارة. ففي ظل غياب هذا المشروع الذي يقوم على نشر مبدأ المساواة والعمومية على مستوى كوني، بوصفه مصدراً لا غنى عنه لأي إمبراطورية تريد قيادة العالم، تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد تراجعت كثيراً عن القيم التي كانت تدافع عنها خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

إحياء الهويات من القبيلة إلى الطائفة 

في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير دولته الثاوية، انبعثت الهويات الإثنية ـ الدينية في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمعات العربية، التي لا تزال جماعاتها الإثنية والمذهبية والطائفية والعشائرية متحاجزة ومتفاصلة، كالزيت والماء، وهو انبعاث تشجعه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل .

وكان مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي طرحه الرئيس السابق جورج بوش في سنة 2004، مجرد استعادة حرفية لأهمّ طروحات التوجّه الاستشراقي سواء من جانب المحافظين الجدد أو من جانب المثقفين الصهاينة، أمثال المؤرخ الأمريكي ـ الصهيوني، برنارد لويس من جامعة برنستون وفؤاد عجمي من جامعة جونز هوبكنز. فقد اشتهر برنارد لويس، المناصر الراديكالي لدولة إسرائيل، باعتباره أول اختصاصي أمريكي أعلن، بعد حرب الكويت، عام 1991، موت العالم العربي ككيان سياسي: لقد حاربت دول عربية دولة عربية أخرى (العراق)، إلى جانب التحالف الغربي، وتهمّشت منظمة التحرير الفلسطينية بسبب موقفها المناهض لهذه الحرب. أو فؤاد عجمي، الذي يشكّل الضمانة العربية لأنصار الليكود والمحافظين الجدد في واشنطن، والناطق الرئيسي باسم الرؤية الطوائفية للواقع الاجتماعي السياسي في العالم العربي.

يصف هؤلاء المحافظون الجدد العالم العربي بأنه “رجل القرن الحادي والعشرين المريض”، وهم لا يخفون أملهم في رؤية هذا العالم العربي يلقى المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الامبراطورية العثمانية، من تقسيم غداة الحرب العالمية الأولى. وفضلاعن ذلك، يعتبر المحافظون الجدد وأمثالهم من الصهاينة العالم العربي بكونه تجمّعاً لأقلّيات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دولتية وطنية. وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة الديموقراطية ومصالح أميركا معاً، والمفترض أنهما مترابطان، على استخدام صريح للطائفية في اطار استراتجية تعرف بالـ”فوضى البنّاءة”.

يصف المحافظون الجدد العالم العربي بأنه “رجل القرن الحادي والعشرين المريض”، وهم لا يخفون أملهم في رؤية هذا العالم العربي يلقى المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الامبراطورية العثمانية،ويستهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير تقليص المنطقة إلى مجرد فسيفساء من “الأقليّات”، بات يسيطر على السياسة الأمريكيّة بمجملها؛ وهو يدفع كلّ واحدٍ إلى التماهي مع طائفته،على حساب أيّ انتماءٍ وطنيّ (أو آخر )، ويقوّض سيادة الدول ويُفضي إلى صراعات لا نهاية لها: في العراق اليوم، في سورية أو إيران غداً؟ كما يشجّع على جميع أنواع التدخّلات الأجنبيّة، الإقليميّة والدوليّة، التي يتلاعب كلٌّ منها بالأطراف المحلّية، لما فيه خدمة مصالحها الخاصّة. وقد أدّت إسرائيل في الواقع، منذ الثمانينيات، دوراً أساسياً في بلورة هذه الإستراتيجيّة .

يدور السؤال هنا حول تماهي الانتماء إلى الأطر الاجتماعية التي سبقت المفهوم الوطني الحديث، فتشكل الهوية يعتبر خلاصة التفاعلات الاجتماعية، وترتبط بمنظومة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد الذين يشكلون الجماعات التي تخضع لسلطة ناجمة عن الانتظام الاجتماعي.

لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ، إنها حصيلة دياليكتيك اجتماعي وسيرورة إيناسية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة عن غيرها.

إشكالية الهوية

يتوقف المؤلف عند المجال العربي الإسلامي، حيث ظهرت في العقد الأخير إشكالية الهوية بقوة من خلال الإحياء المنتظم الذي نشهده للمكبوت الإثني والعشائري والديني والمذهبي والقومي، وتحولت بالتالي جماعات وقطاعات واسعة نحو الهويات المتمذهبة والمسيسة التي تتجه أكثر فأكثر نحو إحياء نرجسياتها.

ضمن هذه الرؤية، يقول الباحث حاتم علامي: “تشكل القبيلة نموذجاً لفهم سوسيولوجيا الهوية فالقبيلة تكوين اجتماعي يقوم على روابط الدم والقرابة وروابط العادات التقاليد المتوارثة، وبعد الانتماء القبلي وحدة التنظيم الأساسية في المجتمعات العربية التقليدية. والقبيلة هي بالتعريف “جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة ونمط الإنتاج التوزيع، والاستهلاك، وأسلوب المعيشة، والقيم، ومعايير السلوك المشتركة وهيكل السلطة الداخلية”.

أما الطائفة فهي تكوين اجتماعي ديني يقوم على نمط محدد للممارسة الدينية. فهنا وجود اجتماعي يقوم على أساس الانتماء لدين أو مذهب أو ملة معينة. ويعرفها ناصيف نصار “بأنها جماعة من الناس يمارسون معتقداً دينياً بوسائل وطرق فنون معينة”. إنَّها تجمع ديني ولكنَّها تكتسب مع الوقت طابعاً اجتماعياً وسياسياً والدين حالة عقائدية تتميز بطابع الشمول، فالدين يشمل عدداً كبيراً من الطوائف الدينية. فالدين الإسلامي يشمل طوائف عديدة وهذا هو حال الدين المسيحي والأديان الأخرى”(ص 287 من الكتاب). 

في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير دولته الثاوية، انبعثت الهويات الإثنية ـ الدينية في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمعات العربية،

وهنا يترتب علينا أن نميز بدقة بين مفهوم الطائفة والطائفية كما بين القبيلة و القبلية . فالطائفة والقبيلة مفهومان يطابقان كينونة اجتماعية تتميز بحضورها الاجتماعي تؤدي أدواراً ووظائف اجتماعية سابقة لتكوينات الدولة الحديثة. أما الطائفية فهي نزعة تعصبية تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي أو الجزئي للقيم والتصورات الطائفية، وكذلك هو الحال فيما يتعلق بمفهوم القبيلة،فالقبيلة هي نزعة تعصبية أيضًا تتمثل في منظومة من القيم و المعايير التي تعبر عن ولاء الفرد لقبيلته في عصر الدولة الحديثة.

من الضروري أن نحاذر في هذا الصدد الوقوع في التصنيفات الإيديولوجية بالنسبة إلى تصنيف التنوع على أسس أثنية مغلقة، الأمر الذي يتطلب اعتماد مقاربة موضوعية، واحترام الرؤية الهادفة إلى تفعيل مسارات الحوار الحضاري والتصدي لتلك الأطروحات التي لا ترى من فرصة للتلاقي والتواصل والحوار والإندماج في بوتقة حضارية إنسانية، مع أهمية عدم تبسيط العلاقة بين الحضارات العابرة للمكونات القارية من حيث عمق الانتماء إلى التراث والتقاليد والثقافة التي تبقى راسخة في مفاهيم الهويات وتجلياتها وتتصدى لمحالات تهميشها.

تؤكد الحقائق والمعطيات التاريخية أنَّ القوى الاستعمارية، والتي انتقلت منذ القرن الماضي إلى التموضع في دائرة التفوق الأمريكي، إنطلاقاً من عامل القوة العسكرية الاقتصادية والثقافية، قد تمكنت من توسيع سلطتها على العالم عبر امتلاك مفاتيح التأثير والتوجيه من باب الإستئثار بالمقدرات والإمكانيات مفعلة بمرحلة الحداثة ومبادئها، مصاغة في دستور الحرية وحقوق الإنسان التي تحولت من نافذة الأمل للبشرية إلى تبرير منطق القوة والتدخلات التي تجري بكل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهو منطق يتضح معه خطر الانحراف عن المسار الذي قام عليه دستور أمريكا والنظام الديمقراطي لمصلحة سياسات الإخضاع وتعزيز روح العداء والتعصب بين الجماعات المختلفة.

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الأولى 1 من 3) قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث توفيق المديني
Submit your review
1
2
3
4
5
Submit
     
Cancel

Create your own review

HATEM ALAMY
Average rating:  
 0 reviews

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to top