لوداع محمود درويش هذا العام وهو يعبر الذكرى الثانية عشرة مع التاسع من آب معنى آخر ؛
فالعالم
الذي ترددت في أرجائه قيم فلسطين انتصارا للانسان والعدالة ، هذا العالم
قد اقفل خلف بوابة COVID 19 لعله يجدد ولادته بهوية اخلاقية جديدة.
في فلسطين اعلان جديد لانتصار الدم على السيف ولا انكسار في مواجهة
طاغوت الموت المستمر وكل المشروع الجهنمي لتغيير المعادلات والهوية.
اما
بيروت محمود درويش فتحول كارثتها نفيرا لايقاظ الضمير العالمي من تحت
تراكمات المؤامرات الخارجية وعهر الدجالين المتربصين بخيرات بلاد الخير،
والمتطوعين لدى طاغية متربع على عرش التفتيت والتفكيك والتخلف.
وهل نحلم بأن يطيح الانفجار الكارثة بأمبراطورية الفساد!!
على
معمودية الدم مع مئات الشهداء وآلاف الجرحى تتهادى اجفان العروس المنهكة
بالدمار والاسى والوجع في احضان القصيدة هربا الى موعد جديد، مع ترنيمة حب
وهوى لشاعر يأبى الرحيل:
“لَم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي …..وتنامُ…
مِنْ
مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم , من طعم الخريف وبرتقال القادمين من
الجنوب , كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ…
من
مَطَرٍ بَنَيْنا كوخنا , والرِيحُ لا تجري فلا نجري ’ كأنَّ الريح مسمارٌ
على الصلصال ’ تحفر قبونا فننام مثل النمل في القبو الصغير
كأننا كنا نُغَنِّي خلسةً :
بيروتُ خيمتُنا
بيروتُ نَجْمتُنا
سبايا نحن في الزمان الرخو
أَسْلَمَنا الغزاةُ إلى أهالينا
فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا
على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحُرّاس
مِنْ ملكٍ على عرشٍ
إلى ملك على نعشٍ
سبايا نحن في هذا الزمان الرخو
لَمْ نعثر شَبَهٍ نهائيِّ سوى دمنا
ولم نعثر على ما يجعلُ السلطانَ شعبياً
ولم نعثر على ما يجعل السَّجانَ وديّا
ولم نعثر على شيء يَدُلُّ على هويتنا
سوى دمنا الذي يتسلَّق الجدران….”
وللكتابة من
بيروت عن محمود درويش عمقه الشاهق ؛ فمحمود هو الجدارية التي تلفح بأنسها
الاسطوري نبض الفينيق وسكينة الانسياب في جلباب الموت الذي يصارع انتظار
اليأس لقيامة الساعة في الفلق العابر للحدود متقمصا حضورا انسانيا لافتا
يليق ببيروت والهوية الخاصة للعلاقة بين الشاعر والمدينة ؛
وهي ليست
المرة الاولى ولن تكون الاخيرة لتزاوج عشق بيروت بالعالمية والهيام
الانساني العام برسالة بيروت التي قد تنزف، قد تئن وجعا ، قد تتضور جوعا ،
قد تتهدم لكنها متمردة على الموت: والموت لجلاديها ، وللعهر الآخذ استئثارا
بالحاجة الدولية لبيروت.
نكتب لمحمود درويش من بيروت
العاشقة الحبيبة في حضرة الادب الرسالة المتلألئة على كرسي لمجد العطاء
الانساني والحلم المتوهج بمعنى الحياة ، وفي الحلم لهذه السنة بعد دولي آخر
مع كرسي محمود درويش عبر الرمزية الخاصة لكرسي محمود درويش في جامعة ،
واحدة من اهم الجامعات الاميركية ,جامعة براون في رود آيلند التي تشكل
تحولا في اختراق ثقافة فلسطين القضية لجدار التمييز والانحياز ؛
وهي
مبادرة تكمل اول تدشين لكرسي محمود في جامعة بروكسل العام ٢٠١٦ في قصر
الفنون في العاصمة البلجيكية بمبادرة جامعة بروكسل الحرة وجامعة لوڤان
الكاثوليكية.
وتعطي المبادرتان اهمية لمبادرة الجامعة الحديثة
للادارة والعلوم MUBS في انشاء كرسي محمود درويش والاعلان عنه في احتفالية
معبرة في قصر الاونيسكو العام ٢٠١٨ بمشاركة لبنانية فلسطينية جامعة مع
مؤسسة محمود درويش والسفير الفلسطيني في لبنان، برعاية وزير الثقافة آنذاك
د. غطاس خوري ؛وهي تتطور برعاية لجنة من لبنان وفلسطين تؤشر لبصمة في
الثقافة والنضال.
نتقاسم تجربة الكرسي العابر للقارات مع اولئك الذين
يصرون على التماهي مع هوية الانتصار بالمعنى وبحقيقة الانسان وحقوقه
المتجلية في فلسطين ،وفي الانتصار على الظلم ومواجهة نيران الحقد والقتل
بالصدور العارية.
ونبحر من حقيقة تطاول عليها حاقدون او متزلفون للمس
بجوهر الرحلة الدرويشية حيث حاولوا بتر الحقيقة الانسانية عن بعدها
الانساني او انكروا لفلسطين فتكها بالمعايير التي صنعتها اتفاقيات من حكام
لجدران السجن العربي ولدروب الدم في غزة ويافا والقدس تحت اقواس النكبة .
نتقاسم
تجربة محمود درويش عبر كرسي جامعي في محاولة للاجابة على سؤال حول كيف
ستفكر بِنَا الاجيال القادمة وهي تقرأ فلسطين الايقونة المفخخة بكل
المؤمرات الدولية الحاقدة والتي تواجه بمفردها اسقاطات قرون من الذل
والهوان والهزيمة ، كيف ستفهم هذه الاجيال بيروت القرن العشرين وبدايات
القرن الواحد والعشرين مع شهرتها المدوية هذه المرة ،ليس من باب ابداعها
المعتاد وريادتها الحضارية، بل من باب كارثتها في احد اضخم انفجارات
التاريخ .
امام هذه الفئات وتلك نضع على بوابة احلامنا
كرسيا لحلم ظل يصدح من فلسطين الى بيروت الى ارجاء العالم ناحية ناحية ؛
ولا بد من تحية لجامعة براون من رؤية عربية تمر بالعمق الانساني المتجسد في
كرسي محمود درويش في جامعة بروكسل الحرة وجامعة لوڤان الكاثوليكية.
فها
هنا يتحفز الدافع مجددا الى تطعيم الحقل الثقافي المترنح على ضفاف
الشكليات الثقافوية المبتورة في ازقة السوشال ميديا مطعما بنورانية من
محمود درويش تضيء سبيلا الى امل بغد افضل ؛
فالكرسي الجامعي في
ابعاده المتنوعة هي تجرية تطورت عالميا لاعطاء الشخصية الثقافية الملتزمة
للمخرجات التعليمية وللعملية البحثية المرتبطة بالتعليم الجامعي .
وقد
اثبتت التجربة اهميتها في اعادة تموضع مؤسسات التعليم العالي في الهم
الانساني عبر الكنوز الادبية والفنيه ؛ ولا يخفى ان تخليد اسماء كواكب في
مجالات متنوعة هو فتح مسارات معرفية للاجيال ؛ وهنا لا بد من الاشارة الى
ان الانقلاب الذي حققه محمود درويش في القصيدة الحديثة شكلا ومضمونا هو
مركب الى الغوص في مرحلة من التحولات تتجاوز حدود الشعر الى الادب واللغة
والانثروبولوجيا لتشكل رصدا لمرحلة حساسة في تاريخنا .
لذلك فإن وضع
تجربة درويش على منصة الصروح الجامعية يفتح على روائع الشعر الفلسطيني
واعلامه الذين لا تنطفئ شعلتهم من امثال سميح القاسم وفدوى طوقان ومعين
بسيسو ،وغيرهم ،
وامتدادا الى شعراء تفاعل معهم شاعرنا فتأثر وأثر بما يوفر ينبوعا لنروي ظمأنا من الشعر العالمي .
تجربة
كرسي محمود درويش في عدد محدود من الجامعات هي مفتاح للدعوة الى تعميم
التجربة وتطويرها عبر الابحاث والانشطة والمناهج.وهي دعوة للتلاقي في حضرة
الابداع الثوري المتجاوز لمخالب الطائفية والعشائرية والانغلاق.
والمسؤولية
تقع على عاتق الهيئات والفاعليات والشخصيات التي تلمع في عقلها الاخلاقي
انوار الحضارة وتشع في روحها مشاعل الحرية والانتصار
للانسان المتجاوز لهاوية الانكسار المنتصر بطهارة الدم البريء على اغلال العبودية ونتانة الفساد المتجذر في روح الذل والانهزامية.
د. حاتم علامي*
رئيس مجلس امناء جامعة MUBS
الرابط الأساسي للمقال : https://www.nidaalwatan.com/article/27407-كرسي-محمود-درويش-الجامعي-من-اوروبا-الى-لبنان-واميركا