يشكل مفهوم الارادة الحرة في بعديها النظري والعملي مفتاحا لتحليل المواجهة الدائرة ضد فيروس وبائي يهدد العالم، وهي مواجهة تتجه الى تبديل الكثير من مفاهيم البشرية واعرافها وتقاليدها وسلوكيات الانسان فيها.
واذا كانت هذه الكورونا، التي انتقلت من الصين لتطال اكثر من مئة دولة بمستويات مختلفة احدثت ارتجاجات في الاستقرار الذي تعيشه، ولاسيما في تلك الدول التي رأت نفسها لوقت طويل في وضع من الاستقرار وخارج نطاق الهلع والعجز، ولاسيما منها دول اوروبا والولايات المتحدة الاميركية وكوريا، فإنها اعلنت التحول الى انماط جديدة في حياة الانسان على الصعيدين الفردي والجماعي للتعامل مع الاخطار المصيرية.
لقد بات واضحا ان كلمة السر في مواجهة الفيروس تتوقف على السلوك الذاتي للافراد، وبناء نوع من التكامل بين الاجهزة الرسمية في الدولة التي تتأهب لإحتواء التداعيات المدمرة للوباء الفتاك، في الوقت التي اظهرت خطط الطوارئ الانماط المختلفة بين بلد وآخر، من حيث العادات والتقاليد والاعراف والمفاهيم، وعلاقة التطبيقات الفردية والجمعية بالقدرة على التكيف مع الاجراءات الاحترازية والوقائية.
تصدر سؤال المسألة الاخلاقية مسرح الاحداث، على المستوى الكلي والجزئي، فمن الواضح ان خير ما يمكن اختياره كمفتاح لكل توليفة السلوكيات، يندرج في اكثر من محور للعلاقات بين الانا والآخر، وعلاقة المجتمع بالسلطة: حيث يمكن ان نتناقش في هذا الصدد:
١-اول ما تبادر الى الاذهان فور انتشار خبر الكورونا في الصين على صعيد الرأي العام او الاحساس الشعبي هو التفتيش عن العلاقة بين الوباء والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فقد تساءل الجميع لماذا الصين: اية روابط بين الفيروس الجديد والتنافس الصيني – الاميركي، في ظل المواجهة القائمة اقتصاديا، وما هي حقيقة الحديث عن هجوم بيولوجي تقف وراءه اميركا.
لم يتوان مسؤولون ايرانيون عن توجيه الاتهام المباشر الى الولايات المتحدة حول اختبار سلاح بيولوجي فتاك ، الامر الذي لم يكن خارج التداول بالنسبة الى بعض المحللين، وبشكل شبه كامل لدى الرأي العام، ولاسيما في البلدان التي تنتابها الخشية والشكوك تجاه السياسات الدولية المنحازة، ولاسيما الولايات المتحدة.
هذه الشكوك اعادت الى الاذهان الاسئلة حول اخلاقية الاعمال، والبواعث الاخلاقية التي تتحكم بخيارات الدول ومراكز الابحاث والعلماء ذوي السلطة والنفوذ في مراكز القرار، فهل تبقى الخيارات وتجاربها ومساراتها تحت سلطة العقل والارادة الخيرة.
٢-كشفت المخاوف المتزايدة، والتطور المرعب، والهلع واقع الدول وحال أجهزة الحكم فيها الحقيقة الاخلاقية الموسومة للانظمة والمرجعيات الرسمية وسلطة القرار، فالاتجاه الذي ترافق مع تطور هذه السياسات يعبر عن الخلفية الاخلاقية، سواء في نوعية ومستوى الاهتمام، أو في الخضوع لاعتبارات اخلاقية نابعة من مفاهيم وقناعات اخلاقية ودينية.
ترافقت ردات الفعل مع احاديث عن خيارات اعتمدت تحت الضغط في بعض الدول تمس بسمعة مراكز القرار والانظمة الطبية في البلد ذاته والمنظومة الاخلاقية بشكل عام.
٣-ينبرى مفهوم الادارة الحرة ليتصدر عملية البحث الشمولي في الازمة – المأزق ككل. نتذكر هنا تحديد “هيغل” للارادة من خلال الدولة باعتبارها غاية يجب التوصل الى تحقيقها، باعتبارها ارادة الارادات للمجتمع المدني والافراد؛ وغايتنا هنا الكشف عن امكان التعامل بين خطة الدولة، وموقف المجتمع، وسلوكيات الافراد.
من الواضح أن هذا التكامل غير متوفر في عشرات الدول، ولنا في لبنان نموذج التنافر بين الدولة والافراد، وافتراق الدولة عن هموم المجتمع واهتماماته، على الرغم من احقية طرح السؤال حول تأثير المرحلة على مستقبل هذا الثالوث.
٤-مفهوم الارادة الحرة يشكل نقطة الارتكاز في كل الدعوات الى ان النتيجة النهائية لتجاوز المأزق وهي تتوقف على سلوكيات الافراد، والتزامهم التوصيات التي تتصل بممارساتهم اليومية، لضمان حصر انتقال الوباء وتمدده، وهنا نصل الى نقطة مهمة تتعلق ببنية العلاقة بين الارادة الحرة والتوجيه العقلي، اي عقلانية الارادة الحرة التي يصبح معها توجيه الافعال جزء من الالتزام الاخلاقي المستند الى ثقافة المعرفة، والادراك، وتحسس المسؤولية.
٥-تظهر صورة الوضع الجديد حال المواجهة المصيرية في المجتمعات، ومفاهيم، وثقافة الافراد المكونين لها. مع المعتقدات التي كانت سائدة، فضلا عن زعزعة أسس العادات التي قامت بين الافراد والجماعات كجزء من الهوية.
فقد طرح المأزق، والمخاوف التي ترافقت معه حول المصير، مسألة الثواب والعقاب والحرية والجبرية، ومسائل القدرية والايمان، الامر الذي نترك للقارئ التوسع في مداه وامتداداته، سيكون في الميدان ايضا مسائل تتعلق بالعلاقة بين الاخلاق والدين، والعلم والايمان، ومستقبل العلاقة بين الحرية والجبرية.
٦-تشكل مرحلة الرعب مجالا زمنيا لإعادة النظر في مفجموعة من الحقائق، وهي ستبرز احكاما قيمية جديدة، وستقلب في المقاربات التقليدية التي كانت سائدة، وستقدم معايير للحكم على مسؤولية الجميع في هذه المرحلة، ولاسيما بالنسبة الى: الدولة ودورها الرعائي والاداري والتنظيمي، مؤسسات المجتمع، ولاسيما منها المؤسسات التعليمية وقدرتها على مواكبة التطورات، علما ان هذه المؤسسات ستكون عرضة للامتحان حول قدرتها على اضاءة الواقع الاجتماعي بالثقافة الصحيحة، وكذلك في ضبط بواعث العاملين فيها، وطلابها للتعاطي بمسؤولية ومهارة لتجاوز المرحلة بأقل خسائر؛ الى الاعلام الذي يشكل صلة الوصل، والمرجعية التي يتعين عليها رفع درجة الاستعداد، مع التشبت بالحقيقة وضمان الوصول الى مصادر موثوقة، مع الارشاد حيث ان ما شهدناه خلال الفترة الماضية، ولاسيما منذ انتفاضة ١٧ تشرين الأول يطرح السؤال حول موضوعية هذه الوسائل وقدرتها على الوصول الى اصحاب الرأي والمحللين الذين يملكون الخبرة والصدقية اللازمة للإضاءة على المعطيات، وتقديم صورة موضوعية عن الواقع، وابراز الخيارات الفضلى.
٧-تطرح المسألة الاخلاقية على التعاطي مع الوباء موضوع اخلاقية الممارسات الطبية، وهو موضوع قديم جديد، ولقد بدأ الحديث عن التحدي المتزايد الذي تواجهه المؤسسات الاستشفائية، وفريق العمل الطبي في التعاطي مع مشكلة النقص في القدرة على مواجهة الضغوط الناجمة عن تصاعد وتيرة الانتشار في الدول ومنها الولايات المتحدة، واذا كانت خيارات الهيئات والفريق في منأى عن النظر، فإن السؤال حولها يبقى قائما. والأمل ان تؤكد التحديات اخلاقية العمل الطبي، وتؤسس لتطوير الالتزامات الانسانية الاخلاقية، مع دفع البحث العلمي لاشواط جديدة من الاكتشافات لمصلحة الانسانية ورفاهية الانسان.
ليس من المناسب في ظروف المآسي استباق النتائج المرجوة باستنتاجات سلبية، وبآراء يصعب الحكم عليها بالنظر الى تعقيدات المرحلة.
الامل يتركز على مجموعة من العوامل وأساسها الامل بالتوصل الى لقاح للفيروس يقضي عليه، ويمنع تجدده في موازاة محاصرته ومنع انتشاره ونتائجه السلبية.
ان البشرية امام تحد مصيري، ونأمل أن لا تصدق تكهنات ذوي الافكار السلبية الذين تنبأوا بمئات ملايين الاصابات وملايين الوفيات؛ أما المجتعات فانها مدعوة لتتجاوز محنتها مع الانتقال الى نمط حياتي جديد، والى خيارات ارادية مبنية على العقلنة والمعطيات العلمية؛ وتعزيز مشاعر الانسانية، والاخلاقيات المشتركة للمساواة والعدالة وتحقيق الخير للجميع.
وفي الوقت الذي تحصد آلة التدمير، وعجلة الحروب الألوف من الضحايا يوميا فإن السؤال يدور حول احتمالات تغيير مفاهيم البغضاء والكراهية والتعصب التي تترافق مع اعمال القتل الهمجي في العالم، خاصة وأن نتائج الحروب وأعمال القتل، ونتائج الممارسات الهمجية تفوق باضعاف نتائج الكورونا؛ لكننا نشك بذلك ونتطلع الى شفاء العالم.
تحت قوس الثقة بأن ارادة البقاء ستنتصر على نتائج الهجمة الفيروسية ، ومع فجر كل يوم سيكون ضوء الإرادة الحرة منارة تنير دروب الأمل وشعلته علماء في المختبرات ، وجامعات ومراكز بحث تستجلي عقل البحث للاكتشافات ، وارادة إنسانية تشع بمعاني الحرية لتنتصر على الخوف ، وتحجر على الكورونا حيث أقامت البشرية عبر تاريخها أماكن لعزل كل الأوبئة والأمراض التي اعترضت سبيلها بحثا عن جماليات الحياة وكينونة الوجود بمعزل عن حماقات الإنسان ، وبعيدا عن الفيروسات والأوبئة التي باتت جزءا من اختبار الانسان لاكتساب حقه بالحياة.
د. حاتم علامي
مقاربة رائعة كالعادة. والاجمل هو الرؤية الشاملة لمشكلة صحية من زواياها المختلفة (اخلاقية، صحية، سياسية، اجتماعية..).
استمتعت حقيقة بقراءة هذا المقال، علّنا نعيش لنبارك العدالة الاجتماعية التي ستنتجها مرحلة ما بعد أزمة الكورونا … العالم سيكون لاهثا وراء انتاج انظمة اكثر أنسنة لا محال
تحياتي دوما د.علامي الذي ننتظر من حضرتكم كتابة المزيد
لو نظرنا إلى الأحداث بمنظارك وعالجنها بالوعي والعلم والثقافة لكان حال الشعب اللبناني أفضل بكثير شرط ان لا تتدخل الغريزة في الحلول .
مقالة أكثر من رائعة دكتور
مقالة جيدة في المضمون وفي التوقيت، حيث انها تتطرق لجوانب مهمة طرأت على المجتمعات من جراء الوباء المشتري والذي اصبح منتشرا في كافة اصقاع الارض ان من… ناحية قطاع التعليم، الرعاية الصحية، اخلاقيات التعاطي مع المجتمعات وفي المجتمعات
صدقت دكتورنا العزيز، لعل هذا الوباء يخلص العقل البشري من حماقات و خزعبلات بعيدة عن قداسة كينونة الوجود