مدونات

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الأولى 1 من 3) قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث توفيق المديني

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الأولى 1 من 3)

قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:السبت، 21 ديسمبر 2019 06:11 م بتوقيت غرينتش

قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث

كتاب يدرس تاريخ العولمة وأسسها الفكرية والسياسية (عربي21)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية
الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، 359صفحة من الحجم الوسط).

أسئلة تطرحها العولمة.. بين يدي الكتاب 

يعيش العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط المنظومة الاشتراكية عام 1991، في ظل العولمة الليبرالية المتوحشة. ويطلق النقاد على هذه العولمة بالليبرالية الجديدة، أو الليبرالية العولمية، أو الليبرالية المتوحشة “ديكتاتورية الأسواق” و”ديكتاتورية تقنيات الإعلام الجماهيري”، لأنها عولمة بلا هوية، تجسد “توتاليتارية “جديدة متناقضة كليًا مع الليبرالية الكلاسيكية الغربية في مرحلة صعودها في أوروبا خلال عصر فلاسفة الأنوار.

لقد دأبت الأيديولوجية السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائدًا في روسيا السوفييتية ودول أوروبا الشرقية بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للأيديولوجيا، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع والإرهاب وافتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الانصهارية .

غير أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالاً وجنوبًا، والتي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية، وإنكار دورالدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره الإجتماعية (تحديدا في مجال التوزيع والعدالة الإجتماعية)، هيمنتها على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد الدولة وإضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة، برزت  في العالم الغربي إيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعا اليوم، إيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي .

ويترافق مع ازدهار الليبرالية الجديدة هذا، وحتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما، انحسار مهم لدور السلطات العامة بدءا بالبرلمان، وتخريب بيئي وتصاعد انعدام المساواة، وتسارع الفقروالبطالة، أي كل ما يمثل نقيض الدولة الحديثة و المواطنية. ونشهد أيضا فصلا جذريا بين تطور تقنيات الإعلام الجديدة من جهة، ومفهوم تقدم المجتمع من جهة أخرى .
ما هو جوهر الأيديولوجيا الليبرالية؟

ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية (1750 ـ 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور البشرية. فالليبرالية متناقضة جذريا مع الأيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الماوراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة. وهي ضد الوحي والميتافيزياء حين أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرّية وهي ضد سحق الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد. فقد جاءت الليبرالية كانتصار باهر على النظام الاقطاعي الذي ساد في العصور الوسطى، وهو النظام الذي كان يستند على الاستبداد والعبودية وقهر حرية الفرد وحقوقه وشكل حينذاك بمؤسساته وقيمه وعلاقاته عائقا أمام  تطور الرأسمالية في ظهورها .

ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية (1750 ـ 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور البشرية.

وهكذا، فإنَّ الأفكار الليبرالية هذه شكلت منظومة لإيديولوجيا متكاملة لليبرالية، التي عبرت عن مرحلة تاريخية محددة، هي مرحلة الرأسمالية الوليدة والصاعدة، وعن اتساق متطلبات تقدم البشرية مع متطلبات صعود الطبقة البرجوازية. ولم يكن من الممكن انتشار الأفكار الليبرالية في مختلف دول القارة الأوروبية، و في الولايات المتحدة الأمريكية لو لم تكن متفقة إلى أبعد الحدود مع حرية الفرد التي قادتها إلى محاربة الاستبداد على الصعيد السياسي، وإلى العقلانية على الصعيد المعرفي، وإلى العلمانية، وتحرير المرأة، والديمقراطية التي تشكل التخطي الديالكتيكي لهذه الليبرالية .

أما الليبرالية الجديدة، فقد جاءت بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة. وقد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها :

1 ـ تتسم  العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية باستقطاب الرساميل والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي بتركيز الثروة و الرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة ، خاصة في الولايات المتحدة .

2 ـ يزداد إفقار العالم الثالث وتهميشه وتتخذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعا همجيا .
3 ـ تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسا في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها  السياسية والعسكرية. ومنذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها، ونشر سلطتها في العالم الفوضوي الذي وصفه هوبس. والولايات المتحدة لاتثق بالقانون الدولي

ولا بالمواثيق الدولية، و هي تنظر الى تحقيق الأمن, كما الدفاع عن الليبرالية الجديدة، عبر حيازة القوة العسكرية واستخدامها.

في كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “2020 ومابعد! إشكالية حضارية في عولمة بلا هوية”، للكاتب الباحث الدكتور حاتم علامي، والذي يتكون من خمسة فصول كبيرة، يتناول فيه مسائل شائكة كالحضارة، والعولمة والهوية، إِذْ يشهد العالم سباقاً محموماً بين عدة اتجاهات إيديولوجية بشأن التحديات الحضارية الماثلة على الخارطة الدولية. 

منذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها،

وفيما يرى الكاتب أنَّ الخيار الوحيد للعرب يتماهى مع تطلعات تتمحور حول تعزيز فرص التواصل والانفتاح والحوارمع العالم الخارجي، يشهد العالم بالمقابل في ظل العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة سباقًا محمومًا للتسلح، وتفاقمًا للنزعات العدوانية وللتسلط والاستئثار من جانبي القوى الدولية الكبرى، علمًا أنَّ  العقود الأخيرة شهدت أحداثا أساسية كانت وراء الأسئلة الراهنة، في ظل اكتشافات علمية مهيبة لصالح الحضارة وتغليب منطق العقل والتطور.
يقول الباحث حاتم علامي: “ماذا يحمل معه الـ 2020 اصطلاحاً لرمزية العشرين في عشرينية التكوين، وعشرينية الأقاليم والجزر والأرض، وفيزيولوجية التكوين البشري، في ظل التفسير الذي يعطى للصفر كرموز للخلود والقداسة، والإثنين كرمز للثنائيات مصدر الأمل”.

ويضيف: “ماذا تخبئ العقود التالية من القرن، وهل التنبؤ هو اختزال لعجز الإنسان عن مواكبة التطور بالعلم والاكتشاف الذي شهدت البشرية نماذج مرغوبة خلال تطورات التحديث والمدنية، وعلام تنطوي تداخلات الإيمان و الثقافة و إبستمولوجيا العقل والانتظام المعرفي والمنظومة الدينية إزاء ثلاثية الحداثة و الحضارة و العولمة، وماهومصير الهوية في مد وجزر بحر هائج بالتحولات”(ص 10 من الكتاب).

لقد توسع الباحث في هذه الدراسة، وتطرق إلى عدة محاور وعناوين، بعد أن أخذ موضوع البحث إلى امتداداته في كنف الفضاء الحالي الذي يجري في ظله تطور قضايا وجودية بالتلازم مع صياغة مفاهيم تعكس المستوى الخاص الذي بلغه تقدم العلم مؤسساً لنظرية فلسفية جديدة. لذلك جاء تداخل هذه العلوم ليؤمن فرصة جديدة لمقاربات شاملة، تجمع إلى مواجهة تحديات الحاضر، رؤية لخلق مسارات إيجابية في كنف التطور المستدام للتعاطي مع ضرورات ذات علاقة بالإيجابيات التي تحققت وملت معها في الوقت نفسه تحديات حقيقية جديدة. 

وينصب البحث على تجاوز الأطر الضيقة في المكان والزمان، حيث إَنَّ أحد وجوه الأزمة التي طغت على حركة الفكر العربي تتمثل في انحسار مدى الأبحاث التي حالت دون إيجاد مخارج لأزمة الواقع العربي، حيث تركزت على أعمال وأفكار بدلاً من الاهتمام بتجاوز الأطر والأبحاث القديمة، وربما كان الأمر ناجماً عن الاهتمام بالبحث عن مكان في الصف الأول على مقاعد الوقت الضائع، ولذلك جاءت أعمال الترجمة في المقدمة، بحثاً عن تظهير لأزمتنا في الفكر العالمي الموسوم بالتقدم العلمي والفكري الذي جاء مدعماً منذ عقود بنتائج العولمة والتكنولوجيا.

يقول الباحث حاتم علامي في هذا الصدد: “لقد ذهب الفكر العربي بعيداً في البحث عن ذاته داخل أسوار الحضارة العالمية بمقاربة تستند إلى توليفة تاريخية شمولية الطابع، دينية المضمون، ليبرز السؤال هنا عما إذا كان هذا البحث في استخدامه للأدوات المعرفية التقليدية للفكر المترنح بعد قرون يفيد في كسر العزلة المستمرة، أو أنه يؤدي إلى التقهقر والضياع ويخلص إلى تسليم مفاتيحه المعرفية إلى الحداثة المتغربة صرحها الثقافي الغربي المتعايش مع حضارات العالم بدرجات متفاوتة، في ظل سيطرة طابع المواجهة مع الحضارة العربية الإسلامية المتشاكسة مع ذاتها ومع الحاضر المستقبل بألف سؤال وسؤال”(ص 15 من الكتاب)..

البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (2الحلقة الثانية  من 3)

الأصول العقلية المعرفية للعصر الحضاري في زمن العولمة

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:الإثنين، 23 ديسمبر 2019 03:00 م بتوقيت غرينتش

كتاب يقارن بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية (عربي21)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية

الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، (359صفحة من الحجم الوسط).

يشكل الخوض في الأسس العقلية المفهومية للحضارات أحد الخيارات التي يتحتم اللجوء إليها لاستكشاف العمق المعرفي لحضارة ما، وفي موضوع هذا الكتاب، يقدم الباحث إضاءة مقارنة على الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية، ومن منطلق نزع الادعاءات القائلة بحتمية سيطرة حضارة ما على الحضارات الأخرى كشرط للحفاظ على الاستقرار والتقدم.

وتنجلي من هنا أهمية ترجمة صور التنوع الحضاري إلى سياسات ومواقف من قضايا الإنسان ومشاكل المجتمعات، وبالتالي رفض محاولة تكريس مفاهيم تقوم على تبرير سياسات الإخضاع بأشكالها المختلفة لتحقيق هيمنة حضارة ما على الواقع الراهن، وتأكيداً لمزاعم حتمية صدام الحضارات، حتمية مواجهتها مع بعضها البعض كنتيجة لتطور الحضارات الذي يختزن أسباب هذه المواجهة.

نشوء الحضارات

إِنَّ المقاربة التي تستند على تحليل المكوِّن العقلي المعرفي لنشوء الحضارات تشكل تحريراً لديناميات الشخصية الحضارية من إسقاطات هذه الإيديولوجيا، من خلال تحليل مضامين المرتكزات المفهومية، والتي تعتبر نتائج دورة زمانية غير منقطعة عن الطابع الإنساني، ولاسيما بالنسبة إلى ما يخص تلازم هذه الشخصية مع البيئة والعوامل المفاتيح التي ترسم اتجاه حضارة ما. 

ففي حالة الحضارة الأوروبية التي شكلت أساس حضارة الغرب يدور السؤال حول العوامل التي أدت إلى نقل حضارة عصر التنوير المستندة إلى الإكتشافات العلمية، والدعوة إلى تحرير الإنسان لنبذ كل أشكال العبودية على قاعدة علمية إنسانية أخلاقية تنافي مبادؤها مقولة التفوق الحضاري القائم على مفاهيم الغطرسة وسياسات تستهدف احتواء الحضارات الأخرى إخضاعها مصادرة هويتها.

في هذا السياق ، يقول الباحث حاتم علامي: “إذا كانت المقاربة تهدف إلى استكشاف المقدمات والمقومات لنشأة الحضارة الغربية، فإنها في سياق التحليل تسلط الضوء على الواقع المأزوم للحضارة العربية الإسلامية، وتُمِيطُ اللثام عن حالة العقل العربي والنظام المعرفي العربي إزاء الأسئلة المصيرية التي تطرحها المرحلة التي يعيشها العالم، والتحديات الماثلة أمام المجتمعات العربية الإسلامية والإنسان العربي عموماً في انتمائه إلى الحضارة الإسلامية”(ص 28 من الكتاب). 

من هنا يبدأ الباحث كتابه بتوجيه مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالعقل والنظام المعرفي، العقل والعقل المجتمعي، المواجهة العقلية للتحريف الإيديولوجي، وصولاً إلى قراءة في الشخصية الحضارية من خلال الأبعاد السوسيوثقافية.

التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي

يقدم الباحث تحليلاً عميقًا لأفكار فلاسفة الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لا سيما في  قضية الحرية، ومفهوم العقل الذي ارتبط عندهم بنبذ الخرافات والأساطير التي شكلت عائقًا أمام القدرات الطبيعية للإنسان. وفي دائرة هذا البحث يركز الباحث على ارتباط ذلك كله بالعقل الاجتماعي وفكرة التقدم بوصفها تعبيرًا عن إعمال العقل، بما يؤدي إلى التقدم أي التحول التدريجي من الأقل إلى الأفضل. ويشكل هذا التوقف عند العقل والعقل الاجتماعي والظواهر والأفكار المرتبطة به دحضًا لإيديولوجيا صدام الحضارات التي تستثمرها سياسيًا في التوازنات الحالية والتغيرات التي رافقت قرونا من الاستعمار.

وكما يقول الباحث حاتم علامي: “إِنَّ السياق نفسه يشكل مدعاة إلى التعامل بمنهجية نقدية ثورية مع المأزق الحالي الذي يعيشه واقعنا العربي، ونجد هنا أن الإضاءة بأنوار القرن الثامن عشر على الوقائع الراهنة تؤشر إلى التداعيات السلبية لغياب البيئة التي تخلق حافزاً ومدعاة لاستنهاض الإنقلاب على الركود الحاصل. وإذا كانت محورية العقل تشكل الأساس في فتح الأبواب أمام حوار جدي ومسؤول فإِنَّ التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي”(ص33 من الكتاب).

ويعتقد الباحث أنَّ موضوعة السلطة، والعمق السياسي، الارتباط بين هذه العوامل، ومسألة الخلافة وتداعياتها مع أحداث القرون السابقة، تشكل دلالات على إنغلاق النظام المعرفي العربي وإقامة الحواجز المعيقة للمحاولات التي جرت حتى الآن، سواء كانت هذه المحاولات صحيحة في اتجاهاتها ومنطلقاتها ومراميها، أو كانت خاطئة من حيث قفز معظمها فوق خصوصية الثقافة الإسلامية وتماهيها مع كينونة هوياته مستلبة في كنف الإنجذابات المتنافرة حول الخيارات، وقيم المستقبل غيرها من القضايا الشائكة التي تمس مسارات التعاطي مع التحديات.

من هنا ركز الباحث على الرابط بين النظام المعرفي وتطور الحضارات، بإبراز الإمكانات المتاحة لإيجاد مخرج للتخبط الذي أوصل إليه قراءة السياق العام لتطور الحضارات قراءة خارجانية، وقد عكست هذه القراءة مرحلية متمثلة بحقيقة تعكس سيطرة قطبية أحادية في المنظومة التي تحكم العالم، وتوجه أحكام الإنسان بصورة متلازمة مع حقيقة ا لعلاقات التي تطورت بين المجتمعات.

من هذا المنظار وبناء على القوة التي تتحكم بالنظام الدولي القائم أحادي القطبية، والمتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، يرى الباحث أن هذه الأخيرة تسعى إلى فرض نموذجها الحضاري على الصعيد الكوني، وتعميم النمط المغرّب أو المُؤَمرك من أجل تحقيق اندماج قسري للحضارات والثقافات ضمن النموذج الأحادي السيطرة في العصر الحالي.

الدعوة إلى العقلانية لتجاوز عقدة الهوية 

منذ عدة قرون والعالم يعيش في كنف الحداثة والحضارة الغربية، وتعرضت البشرية لثلاث صدمات كبيرة، الأولى لـ “غاليلي”، حين اعتبر الشمس مركز الكون، والثانية لـ “داروين” حين اعتبر أن الإنسان متحدر من الحيوان، والثالثة صدمة “فرويد” بأن ما يتحكم بالإنسان ليس وعيه بل لا وعيه، وأضاف جورج طرابيشي صدمة رابعة التي أحدثها الإنسان الغربي للإنسان الشرقي خلال خمسمئة سنة.

انعكست هذه الصدمات على هوية الإنسان الشرقي، فما هي بالتالي ديناميات العلاقة بين الهوية الوجودية والسياق الحداثي المطرد؟ هذا السؤال يشكل حلقة وصل مع تداعيات المسارات الناشئة عن الحداثة ضمن الفضاء الحضاري في عصر العولمة .

يرتبط تحدي التطور الحضاري بأسئلة الكينونة والهوية وصيرورة الحداثة، وتشكل الثقافة عصب النورانية التي تمكن الفكر من النفاذ إلى طرح الأسئلة المنطقية المصيبة، حيث يرتبط سؤال الصيرورة الحداثية العربية بالدراسات المقارنة التي ازدهرت مع تموضع الحضارة العربية، وفي تمظهرها على الخارطة الدولية باعتبارها الحضارة الإسلامية، وباتت المفاهيم التي شكلت فاعليات السياق الحداثي على الصعيد العالمي عموماً جزءًا ملازماً، بل أساساً لتداول الموضوعات والمفاهيم الخاصة بالصيرورة الحداثية العربية.

الفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه.

تشكل قضية البحث عن الهوية نقطة الارتكاز التي استقطبت الاهتمامات الخاصة بعنوان الحداثة العربية، باعتبارها تمظهر لعلاقة الأنا بالآخر، من هنا أهمية المعادلات التي حملتها المابعد حداثة لخلق صيرورة جديدة للفكر العربي ، والتي تشكل فرصة للإنخراط في الحقبة الجديدة، التي تغيرت معها أساليب القرن السابق وتداعياتها على مأزق التخلف.

يقول الباحث حاتم علامي في الردّ العربي ـ الإسلامي على الصدمة الغربية: “إن إحداثيات الصعود الغربي للتربع على عرش الحضارة العالمية تمثل صورة المحرك لتركيز الانتباه على إشكالية البحث عن الهية، فمن المعروف أن غزو نابليون بونابرت لأرض مصر شكلت الإندفاعية الإستعمارية الغربية باتجاه الشرق عام 1789 فكانت الصدمة التي هزت الهوية الإسلامية في بديهياتها وأربكت مرجعيتها، فظهر منذ ذلك الحين حوار حضاري بالوكالة بين أبناء الأمة الواحدة، وسجل تمسك بمبادئ الإسلام شرطاً للنهضة في التعامل مع إحداثيات التطورات الحديثة في مقابل الرهان على الارتماء في أحضان الحضارة الغربية كشرط للإنطلاق الحضاري، حمل هذا الإنقسام مجموعة من الثنائيات تحت عناوين مختلفة كالأصالة مقابل الحداثة، والتراث مقابل المعاصرة، والرجعية ضد التقدمية، وهي ثنائيات تستمر في الخطاب الثقافي العربي ملتفة بنسيج أيديولوجي متلبسة بانتماءات فئوية تحت جنح التطورات التداعيات المتلاحقة”(ص 207 من الكتاب).

مع استمرار التجاذب الفكري، تحت مظلة ظروف المنطقة العربية، فإِنَّ مفهوم الهوية لا ينفصل عن الأبعاد الثقافية الاجتماعية ارتباطاً بالعوامل المحددة لطبيعة المرحلة وتفاعلات العلاقات خلال حقب مختلفة تتسم بالطابع الخلافي، فهي بالنسبة إلى التيار المحافظ ترتبط بالخوف على ضياع الهوية ومسحها، والمساس بالتقاليد والعادات. والرؤية الثانية، أي الماضوية للهوية، هي التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و”الثقافة الشعبية”، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أوالدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أو الشعب أو الطبقة أوالحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلاً عن أنها مقولات غير تاريخية أو لا تاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في تونس الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.

فالفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من “ثقافةٍ” دينيةٍ تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأميركية، ومع الصهيونية والعنصرية ، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب العربية منذ عصر النهضة الأولى، منذ أزيد من قرنين، جهودًا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسًا قبيحًا وتعويضًا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف.

إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى “جوهر” وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية

والهوية بالنسبة إلى التيار الحداثي الذي نشأ في كنف التحولات الجديدة، وفي دائرة التواصل مع الفكر الذي برز مع هذه التحولات، تُعَدُّ مسارًا طبيعيًا وشرطًا للحفاظ على الهو ية المنفتحة على الحداثة لحجز موقع على الخارطة العالمية.فقد ارتبط مفهوم الهوية بالمشروع الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.

يضاف إلى هذين الخطين نظريات أفكار لتدوير الزوايا والبحث عن محاولات توفيقية وتسوية.

إن إشكالية البحث في الهوية تختزل مجموعة التفاعلات، حيث لا يمكن فصل عملية التفكر في علاقة الأنا بالآخر عن مجمل النظريات الفلسفية والأفكار التي ترتبط بثقافة الجماعة البشرية ولا بتراكمات اليوميات الحياتية المتصلة بتلبية الحاجات الإنسانية.

لقد تغيرت طبيعة التواصل بين المجتمعات على مستوى الدول والأفراد وساد مع انتصار العولمة الليبرالية المتوحشة ، بعد عقود من نهاية عصر الدولة ـ الأمة، نمط جديد وآليات جديدة، وتركت فاعليات التواصل الحوار ووسائل الإعلام وتطور الفنون ومشاريع السلام أثراً كبيراً في التصورات والأفكار التي كانت مدار اهتمام، وأساسَا لتكثيف الاهتمام بموضوع الهوية ضمن السياق الحداثي و التحديات التي طرحها المشروع الحداثي.

إِنَّ نقطة البحث عن الهوية ، لم يعد خارج السياقات الحداثية و الثقافية في دائرة الحضارة و التنوع الحضاري، والحال هذه فالمجتمعات العربية مطالبة بالانفتاح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، لا أن تظل سجينةً لعقدة الهوية، فهويتها ليس ما كان عليه ذات يوم في عصر الحضارة العربية الإسلامية فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما تريد أن تكونه في المستقبل، فسؤال الهوية ، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى “جوهر” وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردًا ومجتمعًا وأمةً.

 البحث عن هوية للكينونة الحداثية في ظل العولمة (الحلقة الثالثة 3من 3)

الحضارة بين رؤى معولمة وهويات مستلبة.. وجهة نظر

توفيق المديني

صحيفة عربي 21:الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019 03:28 م بتوقيت غرينتش

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي داعب الأمل أمريكا لتكون الإمبراطورية التي تقود عالم بعد الحرب الباردة (الأناضول)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية

الكاتب: د. حاتم علامي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، 
359 )
صفحة من الحجم الوسط).

إن حقبة من التاريخية الحداثية وسمت حركية الحياة على كوكب الكرة الأرضية منذ عصر التنوير، وبالرغم من تفاوت الآراء بشأن تأثيراتها ونتائجها على الجماعات البشرية، إلا أنه من المتفق عليه أنها أحدثت نقلة نوعية من خلال تعميم نموذج جديد استناداً إلى التماهي مع المشروع الحضاري الغربي، تمخض عن هذا التماهي إطلاق العنان للعولمة.

وإذا كانت الحداثة، قد أعادت الاعتبار إلى الإنسان وإعمال العقل بمعزل عن سلطة الدين، وكذلك تحويل الطبيعة إلى الثقافة، فإن السياق الحداثي ونتائجه التي عرض لها بالنقد معظم مفكرو القرن العشرين، قد تعرت أمام النظريات الجديدة التي دعت إلى ما بعد الحداثة. 

إِنَّ العولمة في هذا السياق تشكل المحرك الذي دفع بالعلاقات التي نشأت بين الحداثة وروحها الثقافية إلى دائرة المساءلة، فقد كان من الطبيعي أن تتجاوز تدفقات العولمة في سيولتها، وحتى انعدام وزنها مع اختراع الإنترنت، المضامين الحداثية التي تمركزت في رحاب المجال السوسيوثقافي، وبدا أن هذا المجال يتحمل وزر النتائج السلبية التي تمخضت عن إشكالية العلاقة بين العولمة الهوية. 

صيرورة الحداثة

من هنا يأتي السؤال بشأن صيرورة الحداثة ـ العولمة وطبيعتها وتداعياتها على هوية العولمة، وعولمة الهويات.

في هذا السياق من البحث المعرفي، يقول الباحث حاتم علامي: “يمثل عنوان النظام العالمي الجديد محور المسارات للعوامل التي ارتبطت بالعولمة، وتبلورت في المفاهيم والتطبيقات التي وظفت في خدمة جدول الأعمال المرتبط بالشعارات والبرامج التي دفعت بطاقة العولمة إلى أوجها مع التحولات الاقتصادية، والسياسات التي ترافقت معها لتكريس نتائجها بالتلازم مع مرحلة استثنائية على الصعيد العالمي حملت معها حقبة من الصراع في أكثر من ميدان. وصلت نتائج هذه المواجهة والتحديات إلى أوجها جاءت لتتركز حول مصير العلاقة مع الغرب، والعلاقة بين الحضارة والعولمة، وتداعيات المرحلة على مجمل المنظومة الثقافية التي اعتبرت جزء عضوياً من مرحلة الحداثة التي نشأت في رحمها العولمة، بأبعادها ومضامينها الاقتصادية الليبرالية، ومنطلقاتها السياسية تبشيراً بالديمقراطية، ومفاعيلها الثقافية باعتبارها انقلاباً في الأنماط التي كانت سائدة في انغلاقها ضمن حدود محلية وانتقالها إلى انفتاح على إنجازات الحداثة والانخراط في سياقاتها”(ص 267من الكتاب).

كانت الرؤية من لدن أنصار العولمة تقوم على انسجام هذه المكونات، على عكس ما آلت إليه التطورات على كافة الأصعدة، فلم تفلح القوى المعولمة في جعل العولمات عولمة واحدة، واتخذ الصراع السياسي وجهة جديدة تبلور مع سياسات السيطرة الهيمنة والتدخل في شؤون الدول والشعوب، ومنعها من ممارسة حريتها وحق تقرير المصير، مما أدى إلى انقسامات حادة فتحت معها أبواب جهنم أمام مشروع الاستغلال الإمبريالي، وبرمجيات استخدام دول ومجتمعات بكاملها في خدمة سياسات عنصرية استغلالية.

 انتصار العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة

تشكل الأحادية القطبية التي نشأت بعد انهيار الإتحاد السوفييتي سمة المرحلة التي شهدت انتصار العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، فأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قبلة الأنظار، وذلك عبر مستويين: المستوى الأول هو عملية النمذجة التي تقوم على اعتماد نمذجة الحياة كما هو في المصدر، ولاسيما بالنسبة إلى الفنون، على كافة أنواعها، وانتشار السينما، والإعلام الغربي، من خلال تأثير وسائل التواصل والإعلام.

المستوى الثاني هو مستوى استقطاب المهاجرين في كافة أصقاع العالم، ولا سيما من الجنوب، من آسيا والشرق الأوسط، بصورة واضحة.

 كان مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي طرحه الرئيس السابق جورج بوش في سنة 2004، مجرد استعادة حرفية لأهمّ طروحات التوجّه الاستشراقي سواء من جانب المحافظين الجدد أو من جانب المثقفين الصهاينة،منذ انهيار الشيوعية، وبالتالي انهيار القطب المنافس أي الإتحاد السوفييتي، داعب الأمل الولايات المتحدة الأمريكية لكي تكون الإمبراطورية التي تقود عالم ما بعد الحرب الباردة، وهو عالم بكل تأكيد شديد الإتساع والتنوع وَنزَّاع إلى الظفر بالديمقراطية بعد سقوط أعتى الأنظمة الشمولية. لكن الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية شديد الإفراط في قوتها العسكرية تفتقر افتقاراً كلياً إلى مشروع ثقافي وأيديولوجي تحتل فيه المسألة الديمقراطية مركز الصدارة. ففي ظل غياب هذا المشروع الذي يقوم على نشر مبدأ المساواة والعمومية على مستوى كوني، بوصفه مصدراً لا غنى عنه لأي إمبراطورية تريد قيادة العالم، تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد تراجعت كثيراً عن القيم التي كانت تدافع عنها خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

إحياء الهويات من القبيلة إلى الطائفة 

في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير دولته الثاوية، انبعثت الهويات الإثنية ـ الدينية في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمعات العربية، التي لا تزال جماعاتها الإثنية والمذهبية والطائفية والعشائرية متحاجزة ومتفاصلة، كالزيت والماء، وهو انبعاث تشجعه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل .

وكان مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي طرحه الرئيس السابق جورج بوش في سنة 2004، مجرد استعادة حرفية لأهمّ طروحات التوجّه الاستشراقي سواء من جانب المحافظين الجدد أو من جانب المثقفين الصهاينة، أمثال المؤرخ الأمريكي ـ الصهيوني، برنارد لويس من جامعة برنستون وفؤاد عجمي من جامعة جونز هوبكنز. فقد اشتهر برنارد لويس، المناصر الراديكالي لدولة إسرائيل، باعتباره أول اختصاصي أمريكي أعلن، بعد حرب الكويت، عام 1991، موت العالم العربي ككيان سياسي: لقد حاربت دول عربية دولة عربية أخرى (العراق)، إلى جانب التحالف الغربي، وتهمّشت منظمة التحرير الفلسطينية بسبب موقفها المناهض لهذه الحرب. أو فؤاد عجمي، الذي يشكّل الضمانة العربية لأنصار الليكود والمحافظين الجدد في واشنطن، والناطق الرئيسي باسم الرؤية الطوائفية للواقع الاجتماعي السياسي في العالم العربي.

يصف هؤلاء المحافظون الجدد العالم العربي بأنه “رجل القرن الحادي والعشرين المريض”، وهم لا يخفون أملهم في رؤية هذا العالم العربي يلقى المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الامبراطورية العثمانية، من تقسيم غداة الحرب العالمية الأولى. وفضلاعن ذلك، يعتبر المحافظون الجدد وأمثالهم من الصهاينة العالم العربي بكونه تجمّعاً لأقلّيات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دولتية وطنية. وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة الديموقراطية ومصالح أميركا معاً، والمفترض أنهما مترابطان، على استخدام صريح للطائفية في اطار استراتجية تعرف بالـ”فوضى البنّاءة”.

يصف المحافظون الجدد العالم العربي بأنه “رجل القرن الحادي والعشرين المريض”، وهم لا يخفون أملهم في رؤية هذا العالم العربي يلقى المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الامبراطورية العثمانية،ويستهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير تقليص المنطقة إلى مجرد فسيفساء من “الأقليّات”، بات يسيطر على السياسة الأمريكيّة بمجملها؛ وهو يدفع كلّ واحدٍ إلى التماهي مع طائفته،على حساب أيّ انتماءٍ وطنيّ (أو آخر )، ويقوّض سيادة الدول ويُفضي إلى صراعات لا نهاية لها: في العراق اليوم، في سورية أو إيران غداً؟ كما يشجّع على جميع أنواع التدخّلات الأجنبيّة، الإقليميّة والدوليّة، التي يتلاعب كلٌّ منها بالأطراف المحلّية، لما فيه خدمة مصالحها الخاصّة. وقد أدّت إسرائيل في الواقع، منذ الثمانينيات، دوراً أساسياً في بلورة هذه الإستراتيجيّة .

يدور السؤال هنا حول تماهي الانتماء إلى الأطر الاجتماعية التي سبقت المفهوم الوطني الحديث، فتشكل الهوية يعتبر خلاصة التفاعلات الاجتماعية، وترتبط بمنظومة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد الذين يشكلون الجماعات التي تخضع لسلطة ناجمة عن الانتظام الاجتماعي.

لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ، إنها حصيلة دياليكتيك اجتماعي وسيرورة إيناسية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة عن غيرها.

إشكالية الهوية

يتوقف المؤلف عند المجال العربي الإسلامي، حيث ظهرت في العقد الأخير إشكالية الهوية بقوة من خلال الإحياء المنتظم الذي نشهده للمكبوت الإثني والعشائري والديني والمذهبي والقومي، وتحولت بالتالي جماعات وقطاعات واسعة نحو الهويات المتمذهبة والمسيسة التي تتجه أكثر فأكثر نحو إحياء نرجسياتها.

ضمن هذه الرؤية، يقول الباحث حاتم علامي: “تشكل القبيلة نموذجاً لفهم سوسيولوجيا الهوية فالقبيلة تكوين اجتماعي يقوم على روابط الدم والقرابة وروابط العادات التقاليد المتوارثة، وبعد الانتماء القبلي وحدة التنظيم الأساسية في المجتمعات العربية التقليدية. والقبيلة هي بالتعريف “جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة ونمط الإنتاج التوزيع، والاستهلاك، وأسلوب المعيشة، والقيم، ومعايير السلوك المشتركة وهيكل السلطة الداخلية”.

أما الطائفة فهي تكوين اجتماعي ديني يقوم على نمط محدد للممارسة الدينية. فهنا وجود اجتماعي يقوم على أساس الانتماء لدين أو مذهب أو ملة معينة. ويعرفها ناصيف نصار “بأنها جماعة من الناس يمارسون معتقداً دينياً بوسائل وطرق فنون معينة”. إنَّها تجمع ديني ولكنَّها تكتسب مع الوقت طابعاً اجتماعياً وسياسياً والدين حالة عقائدية تتميز بطابع الشمول، فالدين يشمل عدداً كبيراً من الطوائف الدينية. فالدين الإسلامي يشمل طوائف عديدة وهذا هو حال الدين المسيحي والأديان الأخرى”(ص 287 من الكتاب). 

في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير دولته الثاوية، انبعثت الهويات الإثنية ـ الدينية في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمعات العربية،

وهنا يترتب علينا أن نميز بدقة بين مفهوم الطائفة والطائفية كما بين القبيلة و القبلية . فالطائفة والقبيلة مفهومان يطابقان كينونة اجتماعية تتميز بحضورها الاجتماعي تؤدي أدواراً ووظائف اجتماعية سابقة لتكوينات الدولة الحديثة. أما الطائفية فهي نزعة تعصبية تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي أو الجزئي للقيم والتصورات الطائفية، وكذلك هو الحال فيما يتعلق بمفهوم القبيلة،فالقبيلة هي نزعة تعصبية أيضًا تتمثل في منظومة من القيم و المعايير التي تعبر عن ولاء الفرد لقبيلته في عصر الدولة الحديثة.

من الضروري أن نحاذر في هذا الصدد الوقوع في التصنيفات الإيديولوجية بالنسبة إلى تصنيف التنوع على أسس أثنية مغلقة، الأمر الذي يتطلب اعتماد مقاربة موضوعية، واحترام الرؤية الهادفة إلى تفعيل مسارات الحوار الحضاري والتصدي لتلك الأطروحات التي لا ترى من فرصة للتلاقي والتواصل والحوار والإندماج في بوتقة حضارية إنسانية، مع أهمية عدم تبسيط العلاقة بين الحضارات العابرة للمكونات القارية من حيث عمق الانتماء إلى التراث والتقاليد والثقافة التي تبقى راسخة في مفاهيم الهويات وتجلياتها وتتصدى لمحالات تهميشها.

تؤكد الحقائق والمعطيات التاريخية أنَّ القوى الاستعمارية، والتي انتقلت منذ القرن الماضي إلى التموضع في دائرة التفوق الأمريكي، إنطلاقاً من عامل القوة العسكرية الاقتصادية والثقافية، قد تمكنت من توسيع سلطتها على العالم عبر امتلاك مفاتيح التأثير والتوجيه من باب الإستئثار بالمقدرات والإمكانيات مفعلة بمرحلة الحداثة ومبادئها، مصاغة في دستور الحرية وحقوق الإنسان التي تحولت من نافذة الأمل للبشرية إلى تبرير منطق القوة والتدخلات التي تجري بكل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهو منطق يتضح معه خطر الانحراف عن المسار الذي قام عليه دستور أمريكا والنظام الديمقراطي لمصلحة سياسات الإخضاع وتعزيز روح العداء والتعصب بين الجماعات المختلفة.

كرسي محمود درويش الجامعي من اوروبا الى لبنان واميركا

لوداع محمود درويش هذا العام وهو يعبر الذكرى الثانية عشرة مع التاسع من آب معنى آخر ؛

فالعالم
الذي ترددت في أرجائه قيم فلسطين انتصارا للانسان والعدالة ، هذا العالم
قد اقفل خلف بوابة COVID 19 لعله يجدد ولادته بهوية اخلاقية جديدة.

في فلسطين اعلان جديد لانتصار الدم على السيف ولا انكسار في مواجهة
طاغوت الموت المستمر وكل المشروع الجهنمي لتغيير المعادلات والهوية.

اما
بيروت محمود درويش فتحول كارثتها نفيرا لايقاظ الضمير العالمي من تحت
تراكمات المؤامرات الخارجية وعهر الدجالين المتربصين بخيرات بلاد الخير،
والمتطوعين لدى طاغية متربع على عرش التفتيت والتفكيك والتخلف.

وهل نحلم بأن يطيح الانفجار الكارثة بأمبراطورية الفساد!!

على
معمودية الدم مع مئات الشهداء وآلاف الجرحى تتهادى اجفان العروس المنهكة
بالدمار والاسى والوجع في احضان القصيدة هربا الى موعد جديد، مع ترنيمة حب
وهوى لشاعر يأبى الرحيل:

“لَم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي …..وتنامُ…

مِنْ
مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم , من طعم الخريف وبرتقال القادمين من
الجنوب , كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ…

من
مَطَرٍ بَنَيْنا كوخنا , والرِيحُ لا تجري فلا نجري ’ كأنَّ الريح مسمارٌ
على الصلصال ’ تحفر قبونا فننام مثل النمل في القبو الصغير

كأننا كنا نُغَنِّي خلسةً :

بيروتُ خيمتُنا

بيروتُ نَجْمتُنا

سبايا نحن في الزمان الرخو

أَسْلَمَنا الغزاةُ إلى أهالينا

فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا

على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحُرّاس

مِنْ ملكٍ على عرشٍ

إلى ملك على نعشٍ

سبايا نحن في هذا الزمان الرخو

لَمْ نعثر شَبَهٍ نهائيِّ سوى دمنا

ولم نعثر على ما يجعلُ السلطانَ شعبياً

ولم نعثر على ما يجعل السَّجانَ وديّا

ولم نعثر على شيء يَدُلُّ على هويتنا

سوى دمنا الذي يتسلَّق الجدران….”

وللكتابة من
بيروت عن محمود درويش عمقه الشاهق ؛ فمحمود هو الجدارية التي تلفح بأنسها
الاسطوري نبض الفينيق وسكينة الانسياب في جلباب الموت الذي يصارع انتظار
اليأس لقيامة الساعة في الفلق العابر للحدود متقمصا حضورا انسانيا لافتا
يليق ببيروت والهوية الخاصة للعلاقة بين الشاعر والمدينة ؛

وهي ليست
المرة الاولى ولن تكون الاخيرة لتزاوج عشق بيروت بالعالمية والهيام
الانساني العام برسالة بيروت التي قد تنزف، قد تئن وجعا ، قد تتضور جوعا ،
قد تتهدم لكنها متمردة على الموت: والموت لجلاديها ، وللعهر الآخذ استئثارا
بالحاجة الدولية لبيروت.

نكتب لمحمود درويش من بيروت
العاشقة الحبيبة في حضرة الادب الرسالة المتلألئة على كرسي لمجد العطاء
الانساني والحلم المتوهج بمعنى الحياة ، وفي الحلم لهذه السنة بعد دولي آخر
مع كرسي محمود درويش عبر الرمزية الخاصة لكرسي محمود درويش في جامعة ،
واحدة من اهم الجامعات الاميركية ,جامعة براون في رود آيلند التي تشكل
تحولا في اختراق ثقافة فلسطين القضية لجدار التمييز والانحياز ؛

وهي
مبادرة تكمل اول تدشين لكرسي محمود في جامعة بروكسل العام ٢٠١٦ في قصر
الفنون في العاصمة البلجيكية بمبادرة جامعة بروكسل الحرة وجامعة لوڤان
الكاثوليكية.

وتعطي المبادرتان اهمية لمبادرة الجامعة الحديثة
للادارة والعلوم MUBS في انشاء كرسي محمود درويش والاعلان عنه في احتفالية
معبرة في قصر الاونيسكو العام ٢٠١٨ بمشاركة لبنانية فلسطينية جامعة مع
مؤسسة محمود درويش والسفير الفلسطيني في لبنان، برعاية وزير الثقافة آنذاك
د. غطاس خوري ؛وهي تتطور برعاية لجنة من لبنان وفلسطين تؤشر لبصمة في
الثقافة والنضال.

نتقاسم تجربة الكرسي العابر للقارات مع اولئك الذين
يصرون على التماهي مع هوية الانتصار بالمعنى وبحقيقة الانسان وحقوقه
المتجلية في فلسطين ،وفي الانتصار على الظلم ومواجهة نيران الحقد والقتل
بالصدور العارية.

ونبحر من حقيقة تطاول عليها حاقدون او متزلفون للمس
بجوهر الرحلة الدرويشية حيث حاولوا بتر الحقيقة الانسانية عن بعدها
الانساني او انكروا لفلسطين فتكها بالمعايير التي صنعتها اتفاقيات من حكام
لجدران السجن العربي ولدروب الدم في غزة ويافا والقدس تحت اقواس النكبة .

نتقاسم
تجربة محمود درويش عبر كرسي جامعي في محاولة للاجابة على سؤال حول كيف
ستفكر بِنَا الاجيال القادمة وهي تقرأ فلسطين الايقونة المفخخة بكل
المؤمرات الدولية الحاقدة والتي تواجه بمفردها اسقاطات قرون من الذل
والهوان والهزيمة ، كيف ستفهم هذه الاجيال بيروت القرن العشرين وبدايات
القرن الواحد والعشرين مع شهرتها المدوية هذه المرة ،ليس من باب ابداعها
المعتاد وريادتها الحضارية، بل من باب كارثتها في احد اضخم انفجارات
التاريخ .

امام هذه الفئات وتلك نضع على بوابة احلامنا
كرسيا لحلم ظل يصدح من فلسطين الى بيروت الى ارجاء العالم ناحية ناحية ؛
ولا بد من تحية لجامعة براون من رؤية عربية تمر بالعمق الانساني المتجسد في
كرسي محمود درويش في جامعة بروكسل الحرة وجامعة لوڤان الكاثوليكية.

فها
هنا يتحفز الدافع مجددا الى تطعيم الحقل الثقافي المترنح على ضفاف
الشكليات الثقافوية المبتورة في ازقة السوشال ميديا مطعما بنورانية من
محمود درويش تضيء سبيلا الى امل بغد افضل ؛

فالكرسي الجامعي في
ابعاده المتنوعة هي تجرية تطورت عالميا لاعطاء الشخصية الثقافية الملتزمة
للمخرجات التعليمية وللعملية البحثية المرتبطة بالتعليم الجامعي .

وقد
اثبتت التجربة اهميتها في اعادة تموضع مؤسسات التعليم العالي في الهم
الانساني عبر الكنوز الادبية والفنيه ؛ ولا يخفى ان تخليد اسماء كواكب في
مجالات متنوعة هو فتح مسارات معرفية للاجيال ؛ وهنا لا بد من الاشارة الى
ان الانقلاب الذي حققه محمود درويش في القصيدة الحديثة شكلا ومضمونا هو
مركب الى الغوص في مرحلة من التحولات تتجاوز حدود الشعر الى الادب واللغة
والانثروبولوجيا لتشكل رصدا لمرحلة حساسة في تاريخنا .

لذلك فإن وضع
تجربة درويش على منصة الصروح الجامعية يفتح على روائع الشعر الفلسطيني
واعلامه الذين لا تنطفئ شعلتهم من امثال سميح القاسم وفدوى طوقان ومعين
بسيسو ،وغيرهم ،

وامتدادا الى شعراء تفاعل معهم شاعرنا فتأثر وأثر بما يوفر ينبوعا لنروي ظمأنا من الشعر العالمي .

تجربة
كرسي محمود درويش في عدد محدود من الجامعات هي مفتاح للدعوة الى تعميم
التجربة وتطويرها عبر الابحاث والانشطة والمناهج.وهي دعوة للتلاقي في حضرة
الابداع الثوري المتجاوز لمخالب الطائفية والعشائرية والانغلاق.

والمسؤولية
تقع على عاتق الهيئات والفاعليات والشخصيات التي تلمع في عقلها الاخلاقي
انوار الحضارة وتشع في روحها مشاعل الحرية والانتصار

للانسان المتجاوز لهاوية الانكسار المنتصر بطهارة الدم البريء على اغلال العبودية ونتانة الفساد المتجذر في روح الذل والانهزامية.

د. حاتم علامي*

رئيس مجلس امناء جامعة MUBS

الرابط الأساسي للمقال : https://www.nidaalwatan.com/article/27407-كرسي-محمود-درويش-الجامعي-من-اوروبا-الى-لبنان-واميركا


الاخلاق والسياسة – المجال اللبناني في السؤال

ليس الحديث في السياسة والأخلاق بالموضوع الجديد؛ فقد شغلت الثنائية اهتمام الفكر عبر العصور من قبيل الاهتمام بمعادلة قرينة للخلق ومتزاوجة مع إدارة شؤونه في بذور الجمعية البشرية.
تشكل الفلسفة اليونانية مفتاحاً لدخول عالم السياسة والأخلاق والتحرك في مسارب الرؤى الإنسانية لبلورة الفضيلة في سلوكيات السلطة المولجة شؤون التدبير في خدمة حاجة الانسان الى التموضع في المساق الجمعي ترجمة لانبثاق فردانيته في توليفة اجتماعية.

ثنائية الاخلاق والسياسة عقدة مسكونة بالالغاز باعتبارها ترميز لرحلة البحث في الوظيفة المهنية للأخلاق وفي ديناميات السياسة بكل نوازعها التي تنصهر فيها روح إرادة الإرادات في فرضية “هيغل” مع العنف المحايث للسلطة باعتباره رديفاً لضرورات الضبط والتوجيه.

لقد اتضحت مع تطور النموذج السياسي في إدارة الحكم مجموعة من الحقائق التي هزت علاقة السياسة بالأخلاق؛ وشكلت الحروب والحروب الأهلية بالتحديد، والنزاعات العرقية والاثنية صدمة للفكر الأخلاقي وفرضيات المثالية التي مثلت الصورة العقلانية لقيام الدولة ضمن مثلث الجماعة والأرض والسيادة؛ ولقد أعطت محطات مزلزلة في تاريخ البشرية صوراً متمايزة للعلاقة، نذكر منها الثورة الفرنسية، وثورة مارتن لوثر كينغ، وثورة غاندي والثورة البلشفية، وتجربة النازية مع هتلر، الى كل الحروب والنزاعات التي يؤسف لاستمرارها بطرق مخزية.

في راهنية العلاقة نميز صورتين في مشهدية التطور:
١- الثنائية على المستوى الغربي بالمعنى المتداول، حيث تعتلي الفلسفة مسرح البحث في العلاقة وقد سطرت لهذه العلاقة المذاهب الفلسفية عبر الفلسفات الرواقية، لتستقر مع انقلاب نوعي عبر الفلسفة اليونانية وافكار أفلاطون وأرسطو في الاخلاق والسياسة، الى فلسفة كانط في القانون الاخلاقي وصولاً الى انفتاح ميدان البحث لمباحث في طبيعة الحكم والسلطة التي بلغ البحث فيها مستوى جديداً مع ميشال فوكو حيث التوسع في ميدان السلطة وتقنيات العنف والحجر الى التمأسس خارج مدار السلطة التقليدية.
من المعروف ان امير ميكيافيلي حط بقوة على فراش العلاقة وقد حل كتابه ليرافق هتلر وغيره من السياسين في بحثهم عن غاية تبرر الوسيلة، وقد تجاوزت شهرة الكتاب الى المدى العالمي، دون ان يتم النقاش في مندرجات الرؤية الميكيافيلية من كل جوانبها.
يدور الاهتمام هنا حول قضايا الديمقراطية والتناوب على السلطة وحقوق الانسان والمجتمع المدني.

٢- على المستوى الشرق أوسطي؛ للشرق الأوسط حقائقه الخاصة وفي صميم الخصوصية تشكل علاقة الثنائية لغزاً خفيا، نعتقد ان مفاتيحه قد أودعت في جينالوجيا؛ أي علم جينات العقل الاخلاقي؛ وكذلك في بنية السوسيولوجيا وفي واجهتها قضية الدين وعلاقته بالسياسة.

وفي السياق يأتي النموذج اللبناني ليستفيض بالرموز والألغاز حيث تصل إمكانية تفكيك العلاقة بين السياسة والأخلاق الى حد الاستحالة.

من هنا فإن التعمق الذي ذهبنا اليه في مكنونات الاخلاق عبر مقالاتنا السابقة، او من خلال الكتاب الذي يصدر خلال أيام ” الاخلاق، الإرادة، والقدر؛ ويتناول حرب الهويات من زاوية اخلاقية”؛ دعوة لمشاركة المثقف اللبناني أهمية موضوع الاخلاق، ونحن بذلك ندعو الى الاستفادة من تحليل نموذج العلاقة في لبنان املاً ببلوغ أدوات معرفية تخدم مجال البحث، وتضيء الطريق للخروج من شرنقة الهيمنة والسيطرة والتهام حرية الناس، وحقهم بالحياة الكريمة؛ لا سيما ان تهالك هذه الحقوق بات مرتبطاً بسياسات التجويع والإمساك برقاب الناس والاحتفاظ بخياراتهم في جيب هذا الزعيم او ذاك.

حملت الانتفاضة تباشير للحرية لكنها عرضة للتمحيص والتدقيق، وهي أمام تحد مصيري، يبدأ بصوغ خطة وترسيخ خطاب الثورة المنشودة. حيث يدور الاهتمام المقارن هنا بين حركة الشارع والزعيم، وتجديد الاهتمام والبحث عن الاستمرارية في خلق معادلة جديدة ضمانة للاستقرار المتوازن مع مستوى التصعيد وكمنطلق لتحقيق التغيير.

تتناول عملية التفكيك عناصر التركيبة ضمن النسيج الايديولوجي الذي يصل الى أقصى تجلياته من اختراع التزاوج بين السياسة والأخلاق الى الانقلاب على السياسة الاخلاقية او الاخلاقية السياسية، مع خيارات خاصة بموجبات الإخضاع لارادة ثقافة السيطرة عبر خلق الانسان المؤدلج في نموذج “الانسان الاشتراكي” مع النموذج الستاليني او “الانسان الرأسمالي” في النظام الرأسمالي، او خلق الهوية المذهبية في مساقات الاصطفاف ومنع قيام العدالة تحت شعارات الولاء والالتزامات الدينية، والخضوع للمطلقات العمياء والتعصب.

من هنا نتناول التركيبة في محاور ثلاثة، من خلال: الانسان في تمظهره كتابع او كمفعول او كموضوع؛ في مقابل المتبوع، او، الموجه، او القائد او الزعيم؛ وصولاً الى صيغة العلاقة او النظام او الآليات توصيفاً للمعنى وترجمة الانتماءات في كافة مسمياتها الوطنية او الطائفية والمذهبية، والقبلية والعشائرية والعائلية والفردية.

أ-نتناول في الباب الأول الفرد كشريك في العلاقة الشائكة بين خياراته الاخلاقية وتموضعه في العلاقة مع سلطة التوجيه والإخضاع. وهنا نتناول الفرد بصفته مسؤولاً عن التزاماته ويتحمل مسؤولية العلاقة السلبية المتمادية بين الاخلاق والسياسة.
الانسان بهذا الصدد هو من يكرس حق الانحرافات السياسية عن الالتزام الاخلاقي من خلال التضحية بمفاهيمه وكرامته الشخصية ضمن ايديولوجيا تطمس قدرته على التمييز؛ لكنها تبريرية ممنهجة في مواجهة العقل النقدي، والاستعداد لضريبة الحرية التي تنتصب مع تجربة سقراط كل الثوار على الظلم، حيث يعتمد تصويب الموقف على معيار معتمد ومرجعية للمعنى.

ب- الفاعل في السقوط الاخلاقي مع سلوك متفنن بمهارات الإخضاع بكل الأساليب، والكاريزما المتأصلة في النموذج للبطولة والفراسة؛ والصورة هي تظهير لمرحلة تحمل معها ضرورات الإخضاع شرطاً لتحويل القرار الى نفوذ قوة للتنفيذ، الحد الفاصل بين مصلحة الجماعة والأنانية السلطوية تخضع لمنظومة من العلاقات السياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية.

لا خلاف حول حاجة القيادة الى مفاهيم كالثقافة وسعة الحيلة والقدرة على اتخاذ القرار والفاعلية التواصلية؛ لكنها مزايا تتصل بصفات المكر وغالباً التظليل عبر ما يتصف بدور الثعلب في السياسة حسب ميكيافيلي لتتجاوز كل الحدود في الممارسة، وهو الوجه الأول لاختلال علاقة السياسة الملتهمة للسلطة بأخلاقيات التحكم والنرجسية، في حين يشكل العجز الإنساني المستحكم بالشخصية الإنسانية هو الوجه الآخر للتمادي في السقوط. ويشكل تموضع التدين خلف التبعية للسلطة بإسم الدين، على حساب جوهر الدين والإيمان الوجه الأكثر خطورة للتبعية العمياء او للتضحية بنعمة الحياة خدمة لأيديولوجيا العداء للآخر والتعصب الأعمى.

لقد عرف لبنان زعماء ورجال دين يفخر الوطن بتطلع بعضهم الى تجاوز البغضاء الطائفية والى ترفع البعض الآخر الى مرتقى السمو والمحبة ربما كان لهؤلاء علينا حق الالتزام بالتغيير.

ج-تختزل منظومة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، او التابع والمتبوع عناصر البيئة التي تنشأ فيها العلاقة وتفعل دينامياته؛ ففي لبنان تتجذر السلوكيات الاخلاقية السياسية في الأرضية التي قامت عليها الصيغة اللبنانية عبر التاريخ؛ وهي التي تتغذى من الصراعات المذهبية والمصالح الفىئوية والمصالح الشخصية والتعصب والفساد.
لقد كرس النظام هذه الخصائص قبل الحروب وفي أثنائها وفي ما بعدها، وقد جاءت التشريعات والأنظمة عن سابق تصور وتصميم لتكريس توازنات مدمرة.
من المهم التوقف عند هذه المحطة أمام الفاعلية الاخلاقية التي لا تهدأ ولا تستكين، والتي يعبر عنها في التجارب الثورية والقيادات التي يخلد التاريخ أسماءها، التعبير عن الدينامكية التطورية للأخلاق هو انفعال بالإرادة الحرة كما يصفها شوبنهاور، او كما يتطرق اليها “إسبينوزا” في مذهبه التربوي او في مصالحة بول ريكور ما بين الإرادة والعقل؛ مع ان الثورة النيتشوية العارمة في إرادة الاقتدار تشكل رافعة لتصحيح العلاقة بين الاخلاق وجوهرها الإرادة الإنسانية المتحفزة للضبط والتحسين والثورة مقابل السياسة في انحرافها عن سكة الخدمة العامة وتكريس الجهود لرفعة المجتمع والإنسان والاتجاه الى التسلط والاستبداد واستغلال السلطة.
تتموضع العلاقة بين الاخلاق والسياسة في سيرورة ثلاثية الأبعاد؛ وهي علاقة تنحو فيها السياسة في التعاطي مع تحديات تطبيق القوانين واحكام السيطرة الى ممارسات تتجاوز الغايات التي نشأت من اجلها وتقع في محظور الانفلات على الضوابط الاخلاقية وسط المجابهة مع محاولات المساس بها وبهيبتها. لذلك تبرز الحرية كمعيار ورابط بين القيمة والواجب والمسؤولية.

نتعامل مع الثلاثية انطلاقاً من نقطة ارتكاز المنظومة القيمية لفهم الأحكام الاعتبارية التي تختلف بين مجتمع وآخر؛ حيث تتمحور المفاهيم الاخلاقية حول المعتقدات والتقاليد التي تؤسس للمعايير الاخلاقية في علاقات الحكم في الموالاة او المعارضة؛ ومن المعروف ان الانسياق في التسليم بالأمر الواقع هو جزء من الثقافة العامة في العلاقة بالمرجعيات.

ولا يختلف الأمر في محور المرجعيات بالنسبة الى صياغة نظام للعلاقات يمسك بناصية الثقافة الاعتبارية وبجسدها في خطاب تعبوي لعلاقة عضوية بين تكريس مرجعيته وحجة صالح الجماعة ومصيرها. مما فاقم التبعيات في ظل الدويلات والجزر السياسية على حساب الدولة.

في السلوكيات تبدو ممارسة الأدوار مرآة لأصل العلاقة حيث التربع على عرش السلطة رافد من روافد ديمومة النظام خارج مشيئة الناخب؛ كما ان الفجوة تعبر عن انسلاخ وجوه جديدة عن المجتمع وهمومه فيترحم الشعب على وجوه مضت وكم من حديث نعمة شاهد على ذلك.

في المحور الثالث يبدو الترابط واضحاً بين القيم المعيارية لثقافة الخضوع وتمادي سلطوية فردانية الزعامة مكللة بتاج الدفاع عن الوطن والطائفة والعشيرة والعائلة؛ أما منظومة الحكم في ابعادها السياسية والاقتصادية والثقافية فقد تطورت في مسار يخدم العلاقة المأزومة بين الاخلاق والسياسة؛ وذلك في ترجمة لدورة متكاملة من فعل الفحش السياسي في الاغتراب الخلقي المتهالك بين احباط الانسان وشرعنة التحكم به ورفع راية الأيديولوجيا المضللة.

أمام المشهد المريع للواقع اللبناني نستعيد صوراً إيجابية في الخصوصية اللبنانية، وتحديداً زخم الإبداع والتميز في التربية والتعليم، والبعد الثقافي على مر العصور، وهو النقيض للسقوط الذي وصل مع الخيبة الاخلاقية الى الهاوية.

من الصعب ان ننتظر انتصار زعامات تهاوت في درك المذهبية والمصالح على ذاتها وعلى تاريخها، لكن ليس من المستحيل ان تهز الحقيقة اللبنانية الإنسانية ضميراً مخفياً او تولد ندرة من قيادات لالتقاط مبادرة الاخلاقية السياسية عبر عقل منفتح وارادة لصفوة الرجال الذين هم أعلام في العلم والبحث والتقوى والانفتاح وروحية الحوار. نختم بالقول ان الاخلاق حقيقة إنسانية متجهة للخير والتسامي، والسياسة ما لم تتجاوز الأفعال الشريرة الى الخير العام فهي بلاء للحكام ومصير اسود للوطن ومستقبله.

د. حاتم علامي

الكورونا وإعادة هندسة الهوية الاخلاقية



يمثل مفهوم الهوية الاخلاقية مرجعاً للتعرف الى المنظومة القيمية لتحديد المعايير والأحكام الاعتبارية في استكشاف الانسان لداخلنيته، ولإعادة تواصليته في المنظومة الاجتماعية التواصلية مع الآخر ضمن فاعلية القيم المشتركة .

طرحت المواجهة مع الكورونا استحقاقات جديدة على اشكاليات الهوية؛ يمكن التوقف عندها على مستويات عدة في مقاربة المرحلة من خلال اثرها على صعيد المرحلة الانتقالية، أو بالتلازم مع اتجاهات المرحلة اللاحقة والمؤشرات؛

١. الهوية الاخلاقية على المستوى الفردي هي ترجمة لمعنى الذات، كما ورد في المعجم الوجيز؛ والدلالة الذاتية للهوية تعني الإحساس بالانتماء الى منظومة راسخة تعطي للفرد خصائص متفردة؛ والهوية في المعجم الوسيط هي حقيقة الشيء .
والهوية في قيمتها الفردانية تتصل اتصالا عضويا بالوعي الجماعي؛ ذلك ان تكون الشخصية الفردية لا يتم بمعزل عن الانتماء الى جماعة. الا ان التحدي هنا يتمثل في الفصل بين القيمية المشتركة للجماعة والحرية الفردية، والبحث في حساسية التوازن بين الحرية الفردية والانتظام العام.

 ٢. وانطلاقا من المستوى الفردي وتجليه في الانتماء الجماعي، يطرح موضوع البنية السوسيوثقافية؛ فإذا كان الانسان يتجه بالفطرة الى الانخراط في الحياة الاجتماعية فإن النظام كضرورة لتنظيم حياة المجتمع شكل مفهوماً متبدلاً للدلالة على الخصائص في كل نظام.
ان تعقيدات الحياة الاجتماعية، وتطور الظاهرة السياسية بالتلازم مع نظام اقتصادي متجاوز للتوجهات التي أسست لخيارات الجمعية يثير عدة أزمات تتصل بالسياسة والاقتصاد والقانون.

نشير في هذا السياق الى الاختلافات بين البنى الاجتماعية وانظمتها السياسية.
وتتمثل ابرز عناصر البنية بالعوامل الديمغرافية والتوزيع السكاني على صعيد العمر والجنس والانتماء العرقي والديني.
تشغل المسألة الدينية مركز الصدارة في تأثيرهاعلى الهوية؛ على ان هذه المسألة في جوهرها الإنساني الثقافي تتجاوز حدود الممارسات العصبية والانغلاق؛ حيث نشير الى ان بصمة الانفتاح الديني والإبداع الايماني تجلت في عصر النهضة مع إسهامات مسيحية وإسلامية في بلورة اروع صورة للفكر الإنساني؛ وهذه الحقيقة مدعاة لدراسة علاقة الهوية الاخلاقية بالسياسة وبهوية الدولة الاخلاقية.

الى تأثير العوامل الدينية فإن مجموعة من المحددات الاجتماعية تلعب دوراً متقدماً في الهوية الاخلاقية على صعيد الفرد والمنظومة القيمية ودور الدولة؛ فموضوع المعايير القيمية للهوية الجمعية يتجلى في الأسرة والعلاقات الأسرية؛ وقد تطور دور المجتمع المدني ليشكل سمة من سمات العلاقات بين مستويات الهوية؛ لتتآلف هذه المقومات في تحديد توجهات الدولة وعلاقتها بالأخلاق.
 
٣. شغلت مسألة هوية الدولة الفلسفة قبل تطور التشريعات؛ وشكل المنطلق اليوناني للهوية الاخلاقية مرتكزاً للهوية الاخلاقية، للدولة، حيث يرى عدد من الفلاسفة وفي مقدمهم سقراط وأفلاطون انه لكي تعرف الخير لا بد ان تفعله؛ لذلك كان الاهتمام بالجانب التطبيقي للأخلاق.

وإذا كان أرسطو قد حدد هدف علم الأخلاق بتنظيم الحياة الإنسانية، حيث غاية الانسان هي الخير الأعظم؛ الا ان عدداً من المفكرين وفي مقدمهم ميكيافيلي قد نظروا الى الدولة بمعزل عن الاخلاق حيث الغاية تبرر الوسيلة، وقد شكل كتابه الأمير رفيقاً للاستبداد كما ظهر ذلك مع هتلر.

اشتهرت مع هيغل النظرة القائمة على تبرير حق الدولة بالقضاء بالعنف والقوة على النزوات الفردية ممجداً نظرية الدولة المطلقة. اما كانط فقد عمل في كتابه “مشروع السلام الدائم” على مقولة ان ان الحياة السياسية داخل المجتمع الواحد وخارجه يجب ان تقوم  على العدل والمساواة.

يستند مفهوم الدولة الاخلاقية الى المبادئ التي تطورت مع الاكسيولوجيا أو مبحث القيم المتجلية في قيم الحق والخير والجمال؛ نميز في هذا الصدد المعايير القيمية لقياس طبيعة الدولة الاخلاقية. لقد فشلت مشاريع الدولة في احقاق مبادئ العدالة والمساواة؛ وتحتل معدلات الفساد والإخلال بالقانون والانحرافات السلطوية قرينة على الانسلاخ بين الشعارات التي قامت عليها الدول وممارساتها السلطوية، فهي على مستوى الدول التي تدعي الديمقراطية أنظمة سياسية اوليغارشية في خدمة اقتصادات غير اخلاقية في معظم استغلالها للنفوذ والسيطرة؛ وهي في واقع الدول النامية مشاريع لبناء الدولة خاضعة لتوازنات داخلية فئوية ولتبعية لمراكز السيطرة الدولية على حساب مصالحها القومية.
وقد تفاقم موضوع السلطوية من خلال توسع حدود استراتيجية للسلطة؛ حيث لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز حيز السياسي وتخومه، حسب تعبير ميشال فوكو في ميكرو السلطة؛

وقد جاءت فترة العولمة لتفاقم من مخاطر تشوه الهوية الاخلاقية للسلطة المتحكمة بالقرارات، فهي قرارات تعبر عن اختلالات داخلية تتوزع بين مواجهة الاستحقاقات الداخلية على صعيد المجتمع؛ ولا سيما في المجتمعات التعددية؛ وكذلك في مواجهة منظومة العلاقات الدولية التي أسست لعصر من الإشكاليات الهوياتية واضطراب المعايير والضياع.

٤. الهوية الاخلاقية ازاء العولمة والهوية الكونية: ينطلق الجواب من السؤال عما اذا كان بالإمكان الحديث عن قيم إنسانية مشتركة؛ أم ان الحديث هو مجرد ضرب من الخيال.
ينبغي التمييز على هذا الصعيد بين الأخلاق الفطرية التي تتصل بالخيارات العامة المتصلة بالضمير الأخلاقي واحترام الحياة؛ في مقابل الاخلاق المكتسبة التي تطورت ضمن المعتقدات والقيم والتقاليد الجديدة وعكست القيم الاعتبارية في علاقتها بالتكنولوجيا وحقوق الانسان وحق الاختلاف.
تتجلى هنا مجموعة من الفروقات على صعيد التشريعات وعلى الصعد العملية المتصلة بالدولة والمجتمع؛ يذكر هنا عدد من المسائل الخاصة بالخيارات الطبية، دور المرأة، وحريةالتعبير، وقضايا تفسر بطرق متعارضة كموضوع الزواج والمثلية والإرث وغيرها.

أليس من اللافت ان الكرة الأرضية التي تواجه متضامنة معنويا الهجوم الوبائي لا يرف لها جفن ازاء الحروب وتداعياتها، والمواجهات العنصرية وأعمال القتل والدمار والتعصب في العالم؛
والعالم بهذا المعنى أمام استحقاق مصيري وفرصة ذهبية لتحويل التحدي الى مسلك اخلاقي في منظومة تضع حداً للجوع والفقر قبل سقوط الهيكل على رأس الجميع.

مع عصر الكورونا وإغلاق الحدود تنتعش النقاشات حول اعادة هندسة الهوية الاخلاقية، لقد حركت الممارسات على المستوى القومي مشاعر الحنين الى الانتماء الما قبلي للتطور المشوه؛ وجاء الحديث عن التنمر وفتح ارشيف الهويات لايقاض رغبة في البحث عن الهوية؛ يفرض الحنين الى الدولة والجماعة تحديات جديدة من اجل التعامل بعقل منفتح وارادة مسؤولة، بما يؤسس لقيم إنسانية فيكون “خليك بالبيت” تحضيراً لتجاوز العزلة الى هوية جديدة مرتكزة الى المعرفة وروح التضامن.

Covid-19 : الجشع في جنازة العدالة


Covid-19: الجشع في جنازة العدالة

كورونا على مدى الكرة الارضية، الخوف الجاثم لا يوفر بقعة جغرافية او مجتمعاً من المجتمعات حيث الجميع في دائرة الخطر، وامام استحقاق المواجهة. فإن مشاعر الهلع في أوج الترقب لتحول مصيري، ومقامات كبيرة قلما كانت على تماس مع نتائج هذا التحول هي الان عرضة للمواجهة في قراراتها وفي سلوكياتها وفي مصيرها. ولا سيما على مستوى قيادات العالم في اكثر الدول تقدمًا.

في تجاوز الوباء لكل المحاذير والاعتبارات المعهودة مفارقة برزت مع شيوع الوباء ليهز المحرمات في النظام العالمي  مع التوازنات التي تتحكم بها توجهات واضحة الدلالة والمعاني، حيث يغيب طيف العدالة وصوابية الموقف لمصلحة التعسف والجشع الفردي. ليس من السهل هنا التمييز بين ميدان الرفاهية المستفيضة بالنسبة الى فئات قليلة في كل مجتمع من حيث نمط الحياة، ووفر الوسائل والخيارات التي تتجاوز كل الصور الخيالية والافتراضية؛ وليس العالم بصدد محاكمة هذه الفئات وليس هنا مجال التعامل معها .

لكن ما يمس قضية  التعامل مع  التزامات  الضرورات العلاجية والمعيشية كأولويات في المجتمعات  تواجه نموذجا مجردًا  من  العدل والمساواة على يد الجشع المادي وآلياته. السؤال ليس سوى وقفة مع الأمل بأن يستعيد العالم وعيه لوقف عبثية الحروب والأطماع وتوظيف الحد الأدنى من خيراته في خدمة الانسان ومعالجة مشاكله. فهل تؤثر المرحلة في استنهاض الموضوعية والاستفادة من التجربة التاريخية في ظل احتدام الصراع بين الارادات؟ على امل ان تحمل النتيجة في طياتها  عناصر للتغيير والتبدل.

 Covid-19 في هجوم من نوع جديد وقوة صدمته زلزال في البنية الكونية: البنية الاجتماعية التي تختلف تبعًا لتركيبة المجتمعات، بدء من المنظومة الكونية لنظام العولمة في اوجهها المختلفة؛
وهو زلزال على صعيد المسألة الاخلاقية وصدمة ارتدادية في مجمل العلاقات البينية  لكل الترسيمات التي ارتبطت بعصر الحداثة وإسقاط العولمة.

بين الازمة الاقتصادية والهلع ارتباطات مجلية في ردة فعل المنظومة الدولية، وفي قرارات التعامل من لدن مراكز القرار على المستوى الدولي وبالنسبة الى الواقع المحلي على مستوى كل دولة على حدة .
نظرة سريعة في تداعيات الكارثة الصحية بصدد السؤال الاخلاقي في زمن الكورونا :
 1-صيرورة السلوك البشري في مواجهة التحدي وهي مسألة ترتبط بما توصلت اليه المجتمعات في نمط الحياة الذي تعيشه، مما يستلزم وجوب تحليل الاولويات التي تصدرت اهتمام المجتمعات ولا سيما منها توجهات القيمين على ادارة هذه المجتمعات، ووعي المجتمع والإنسان للانفتاح على التأقلم مع الظروف المستجدة، نعطي مثالا هنا اولوية الخطط الرسمية ورفع مستوى الوعي عند المجتمع وفي السلوكيات الفردية. نشير الى ان موضوع حقوق الانسان في الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي لايزال موضوع تجاذب وهو ما يبدو من خلال التساؤل حول حصة الفرد ونصيبه من مجمل الميزانيات الموجودة في العالم التي تتركز على الحروب والنزاعات على المستويات الدولية والاقليمية والمحلية. تحت تأثير التقسيم الدولي، وتكريس منظومة مجحفة من اجل التحكم، والاستبداد وخضوع خيرات العالم لاستنزاف الموارد البشرية لمصلحة النظام الدولي وشركاته العابرة للقارات.
السؤال الآن اين هي هذه الشركات في حين يتحدث العالم عن ندرة الموارد لتأمين مقومات وأجهزة المواجهة مع انتشار الفيروس، او تأمين الحد الادنى من من موجبات الحجر الالزامي.

 2- المنظومة القيمية التي تنطوي عليها الأحكام المعيارية المتضمنة لكل المعتقدات والتقاليد، ومدى تطابقها مع شروط توفير الحد الادنى من المفاهيم اللازمة لترسيخ الارادة الحرة الواعية وتوظيفها  في ضبط سلوكيات المواجهة.
ستكون هذه الارادة امام تحد تاريخي يتوقف على مؤداه مصير التناسق وانسجام الناس مع قناعاتهم الفردية والمفاهيم الاجتماعية ، اي انبثاق الذات المدركة لمسؤوليتها في مواجهة الأزمة باتزان وشجاعة .

 3- اتصالا نحن امام التحدي الخاص بنظام العلاقات الاجتماعية، ونحن هنا ازاء بنية تتداخل فيها العناصر الثقافية، والمعاني القيمية في النظام الاجتماعي في صيغ الانتماء والهوية بالنسبة الى المستوى القبلي والعائلي والمديني والريفي، ويمثل هذا المؤشر مقياسًا لفهم نتائج طريقة التواصل الحالي عن بعد على التماسك الاجتماعي والعلاقات التي سادت المجتمع من المهم على هذا الصعيد متابعة تداعيات المواجهة على نظام التحكم الذي كان سائداً من قبيل منظومة التحكم الديني، والسياسي، والاعلامي، والعائلي. يبدو ذلك مدعاة للتساؤل حول مفاهيم الفردية والجمعية في الوقت الذي أعطت فيه المؤشرات الجديدة وإمكانات جديدة بشأن السلوك الغيري والبينذاتي.

 4-التوقف عند نتائج الهوية التقنية للسلوكيات المستجدة، باعتبارها حقيقة ذات نتائج على صعيد خيارات الانسان في علاقته بالمجتمع، وبالمجتمع وبالدولة، وبإزاء الضوابط الناجمة عن تطور التكنولوجيا. والتي تمس بخياراته وبخصوصيته التي تدخل اليها قدرات تقنية في مسبوقة حيث تجد كل الطرق مفتوحة لتكريس هيمنتها على الفعل الإنساني مع تطبيقات الروبوت والتوجيه عن بعد.


هذه الحقيقة نفسها تشكل إضاءة على الفروقات الشاسعة بين الدول والمجتمعات؛ ويرتبط بها تكريس فجوات جديدة على صعيد فرص  التطور والتنمية، ولا بد من التأكيد ان النجاح في المواجهة يصقل قدرات الناجين والرابحين لشرف التكيف  للاستثمار على صعيد التعليم والمعرفة في مواجهة الاستحقاقات التي ستترتب على المرحلة اللاحقة، واعتبارها أساساً لخطة تطوير على صعيد الاقتصاد والتنمية، وضمان الشفافية في موضوع الخدمات من خلال الأنظمة الإلكترونية.

اين نحن من هذه الحقائق:
في تقرير صادم نشرته مجلة اندبندنت العام 2017، أشارت الاحصائيات الى أن 1% من عمالقة الاغنياء في العالم يملكون نصف ثروة الكرة الارضية، وتصل قيمتها الى 106 تريليونات دولار اي ثمانية أضعاف الاقتصاد الاميركي؛ وتزداد الفجوة وعدم المساواة على صعيد العالم بمعدلات مختلفة بين بلد وآخر.

وورد في تقرير CNN ان 1% من البشر يملكون 82% من ثروة العالم بحيث يذهب 80% من كل مئة دولار الى جيوب هؤلاء الاغنياء.

من هنا يأتي السؤال حول إمكانية قبول الحجج عن استعداد العالم لمواجهة التحديات التي تواجهه على مختلف الاصعدة الصحية والبيئية والحقوقية والتعليمية.

الملفت ان جميع الدول بدء من الولايات المتحدة، التي تشهد نقاشاً حول تأمين كلفة مواجهة الكورونا على صعيد الاحتواء، او اللقاح، او تغطية تكاليف الحجر المنزلي، وصولاً الى بلدنا العزيز لبنان الذي يواجه كورونا في ظل مأزق اقتصادي غير مسبوق، مروراً بإيران وغيرها من الدول التي تتشارك الحاجة الى موارد استثنائية.

 بعد 17 تشرين الاول استشرف  لبنان فرصة  للنجاح في التقدم بخطوات لمواجهة التحديات من خلال الانتفاضة برؤية الثورة، لكن الظروف الموضوعية والذاتية التي أجهضت الأمل تنتصب مع المواجهة.
ليس مفاجئًا ان تحظى الكفاءة اللبنانية بميزة مساعدة في المعركة لكن الصورة تكشف اليوم التمايز بين إرادات صادقة لثقافة إنسانية لتحمل المسؤولية، ومواءمة الموقف مع امل معلق على الحكم في النجاح بالمواجهة عل ذلك يعطيه نقاطًا إيجابية في التعامل مع الانهيار، وهو وجه من وجوه المجابهة مع ضمائر اولئك الموبوئين بالجشع والطمع وحب السلطة والصراع من أجل إبقاء لبنان تحت سلطة حكمتهم المذهبية.

يجمع اللبنانيون على ابتلائهم بوباء الفساد والطائفيةلكنهم بمنأى عن معايير  للحكم  على الممارسات والقرارات والسلوكيات تمهيدا لتوحيد الخطاب والخيارات، وبالتالي البحث  في قدرة أهل الحكم على حشد الحد الادنى من الإمكانات؛ مع الإشارة الى ان أهل السياسة يتوزعون بين منشغل بالازمة وبين من هم على مفترق الأزمات لتكريس حضورهم  في عالم القرار ولكل منهم هواجسه ورؤاه  في خيارات المعاناة .

اما بعد، ومع  قبس العدالة الذي يشق مجاهل الأطماع يبقى الأمل بانتصار الارادة الحرة ، الارادة المسلحة بالمعرفة والقيم الإنسانية والعبور الى مناعة جديدة لصهر النفوس بمناعة الموقف السليم وشجاعة التفكير المستقل في المستوى الاستثنائي الذي يتناسب مع اللحظات الحرجة وخشية من عبثية السياسات وهشاشة الشعارات الحزبية والمناطقية .


الى كل الذين تطالهم المعاناة في الصميم، نستعيد حقائق من التجربة  الإنسانية، حيث :
الألم يولد السعادة، العذاب يحفز الارادة الحرة، والظلم يولد العدالة، فمع  امل بشفاء  جميع  المصابين الرجاء بأن يستفاد من هذا الزمن الصعب لتجنب مآس قادمة، والاستفادة من العبر من اجل مجتمع معافى.
 
د. حاتم علامي


الارادة الحرة في مواجهة فيروس الكورونا

يشكل مفهوم الارادة الحرة في بعديها النظري والعملي مفتاحا لتحليل المواجهة الدائرة ضد فيروس وبائي يهدد العالم، وهي مواجهة تتجه الى تبديل الكثير من مفاهيم البشرية واعرافها وتقاليدها وسلوكيات الانسان فيها.

واذا كانت هذه الكورونا، التي انتقلت من الصين لتطال اكثر من مئة دولة بمستويات مختلفة احدثت ارتجاجات في الاستقرار الذي تعيشه، ولاسيما في تلك الدول التي رأت نفسها لوقت طويل في وضع من الاستقرار وخارج نطاق الهلع والعجز، ولاسيما منها دول اوروبا والولايات المتحدة الاميركية وكوريا، فإنها اعلنت التحول الى انماط جديدة في حياة الانسان على الصعيدين الفردي والجماعي للتعامل مع الاخطار المصيرية.

لقد بات واضحا ان كلمة السر في مواجهة الفيروس تتوقف على السلوك الذاتي للافراد، وبناء نوع من التكامل بين الاجهزة الرسمية في الدولة التي تتأهب لإحتواء التداعيات المدمرة للوباء الفتاك، في الوقت التي اظهرت خطط الطوارئ الانماط المختلفة بين بلد وآخر، من حيث العادات والتقاليد والاعراف والمفاهيم، وعلاقة التطبيقات الفردية والجمعية بالقدرة على التكيف مع الاجراءات الاحترازية والوقائية.

تصدر سؤال المسألة الاخلاقية مسرح الاحداث، على المستوى الكلي والجزئي، فمن الواضح ان خير ما يمكن اختياره كمفتاح لكل توليفة السلوكيات، يندرج في اكثر من محور للعلاقات بين الانا والآخر، وعلاقة المجتمع بالسلطة: حيث يمكن ان نتناقش في هذا الصدد:

١-اول ما تبادر الى الاذهان فور انتشار خبر الكورونا في الصين على صعيد الرأي العام او الاحساس الشعبي هو التفتيش عن العلاقة بين الوباء والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

فقد تساءل الجميع لماذا الصين: اية روابط بين الفيروس الجديد والتنافس الصيني – الاميركي، في ظل المواجهة القائمة اقتصاديا، وما هي حقيقة الحديث عن هجوم بيولوجي تقف وراءه اميركا.

لم يتوان مسؤولون ايرانيون عن توجيه الاتهام المباشر الى الولايات المتحدة حول اختبار سلاح بيولوجي فتاك ، الامر الذي لم يكن خارج التداول بالنسبة الى بعض المحللين، وبشكل شبه كامل لدى الرأي العام، ولاسيما في البلدان التي تنتابها الخشية والشكوك تجاه السياسات الدولية المنحازة، ولاسيما الولايات المتحدة.

هذه الشكوك اعادت الى الاذهان الاسئلة حول اخلاقية الاعمال، والبواعث الاخلاقية التي تتحكم بخيارات الدول ومراكز الابحاث والعلماء ذوي السلطة والنفوذ في مراكز القرار، فهل تبقى الخيارات وتجاربها ومساراتها تحت سلطة العقل والارادة الخيرة.

٢-كشفت المخاوف المتزايدة، والتطور المرعب، والهلع واقع الدول وحال أجهزة الحكم فيها الحقيقة الاخلاقية الموسومة للانظمة والمرجعيات الرسمية وسلطة القرار، فالاتجاه الذي ترافق مع تطور هذه السياسات يعبر عن الخلفية الاخلاقية، سواء في نوعية ومستوى الاهتمام، أو في الخضوع لاعتبارات اخلاقية نابعة من مفاهيم وقناعات اخلاقية ودينية.

ترافقت ردات الفعل مع احاديث عن خيارات اعتمدت تحت الضغط في بعض الدول تمس بسمعة مراكز القرار والانظمة الطبية في البلد ذاته والمنظومة الاخلاقية بشكل عام.

٣-ينبرى مفهوم الادارة الحرة ليتصدر عملية البحث الشمولي في الازمة – المأزق ككل. نتذكر هنا تحديد “هيغل” للارادة من خلال الدولة باعتبارها غاية يجب التوصل الى تحقيقها، باعتبارها ارادة الارادات للمجتمع المدني والافراد؛ وغايتنا هنا الكشف عن امكان التعامل بين خطة الدولة، وموقف المجتمع، وسلوكيات الافراد.

من الواضح أن هذا التكامل غير متوفر في عشرات الدول، ولنا في لبنان نموذج التنافر بين الدولة والافراد، وافتراق الدولة عن هموم المجتمع واهتماماته، على الرغم من احقية طرح السؤال حول تأثير المرحلة على مستقبل هذا الثالوث.

٤-مفهوم الارادة الحرة يشكل نقطة الارتكاز في كل الدعوات الى ان النتيجة النهائية لتجاوز المأزق وهي تتوقف على سلوكيات الافراد، والتزامهم التوصيات التي تتصل بممارساتهم اليومية، لضمان حصر انتقال الوباء وتمدده، وهنا نصل الى نقطة مهمة تتعلق ببنية العلاقة بين الارادة الحرة والتوجيه العقلي، اي عقلانية الارادة الحرة التي يصبح معها توجيه الافعال جزء من الالتزام الاخلاقي المستند الى ثقافة المعرفة، والادراك، وتحسس المسؤولية.

٥-تظهر صورة الوضع الجديد حال المواجهة المصيرية في المجتمعات، ومفاهيم، وثقافة الافراد المكونين لها. مع المعتقدات التي كانت سائدة، فضلا عن زعزعة أسس العادات التي قامت بين الافراد والجماعات كجزء من الهوية.

فقد طرح المأزق، والمخاوف التي ترافقت معه حول المصير، مسألة الثواب والعقاب والحرية والجبرية، ومسائل القدرية والايمان، الامر الذي نترك للقارئ التوسع في مداه وامتداداته، سيكون في الميدان ايضا مسائل تتعلق بالعلاقة بين الاخلاق والدين، والعلم والايمان، ومستقبل العلاقة بين الحرية والجبرية.

٦-تشكل مرحلة الرعب مجالا زمنيا لإعادة النظر في مفجموعة من الحقائق، وهي ستبرز احكاما قيمية جديدة، وستقلب في المقاربات التقليدية التي كانت سائدة، وستقدم معايير للحكم على مسؤولية الجميع في هذه المرحلة، ولاسيما بالنسبة الى: الدولة ودورها الرعائي والاداري والتنظيمي، مؤسسات المجتمع، ولاسيما منها المؤسسات التعليمية وقدرتها على مواكبة التطورات، علما ان هذه المؤسسات ستكون عرضة للامتحان حول قدرتها على اضاءة الواقع الاجتماعي بالثقافة الصحيحة، وكذلك في ضبط بواعث العاملين فيها، وطلابها للتعاطي بمسؤولية ومهارة لتجاوز المرحلة بأقل خسائر؛ الى الاعلام الذي يشكل صلة الوصل، والمرجعية التي يتعين عليها رفع درجة الاستعداد، مع التشبت بالحقيقة وضمان الوصول الى مصادر موثوقة، مع الارشاد حيث ان ما شهدناه خلال الفترة الماضية، ولاسيما منذ انتفاضة ١٧ تشرين الأول يطرح السؤال حول موضوعية هذه الوسائل وقدرتها على الوصول الى اصحاب الرأي والمحللين الذين يملكون الخبرة والصدقية اللازمة للإضاءة على المعطيات، وتقديم صورة موضوعية عن الواقع، وابراز الخيارات الفضلى.

٧-تطرح المسألة الاخلاقية على التعاطي مع الوباء موضوع اخلاقية الممارسات الطبية، وهو موضوع قديم جديد، ولقد بدأ الحديث عن التحدي المتزايد الذي تواجهه المؤسسات الاستشفائية، وفريق العمل الطبي في التعاطي مع مشكلة النقص في القدرة على مواجهة الضغوط الناجمة عن تصاعد وتيرة الانتشار في الدول ومنها الولايات المتحدة، واذا كانت خيارات الهيئات والفريق في منأى عن النظر، فإن السؤال حولها يبقى قائما. والأمل ان تؤكد التحديات اخلاقية العمل الطبي، وتؤسس لتطوير الالتزامات الانسانية الاخلاقية، مع دفع البحث العلمي لاشواط جديدة من الاكتشافات لمصلحة الانسانية ورفاهية الانسان.

ليس من المناسب في ظروف المآسي استباق النتائج المرجوة باستنتاجات سلبية، وبآراء يصعب الحكم عليها بالنظر الى تعقيدات المرحلة.

الامل يتركز على مجموعة من العوامل وأساسها الامل بالتوصل الى لقاح للفيروس يقضي عليه، ويمنع تجدده في موازاة محاصرته ومنع انتشاره ونتائجه السلبية.

ان البشرية امام تحد مصيري، ونأمل أن لا تصدق تكهنات ذوي الافكار السلبية الذين تنبأوا بمئات ملايين الاصابات وملايين الوفيات؛ أما المجتعات فانها مدعوة لتتجاوز محنتها مع الانتقال الى نمط حياتي جديد، والى خيارات ارادية مبنية على العقلنة والمعطيات العلمية؛ وتعزيز مشاعر الانسانية، والاخلاقيات المشتركة للمساواة والعدالة وتحقيق الخير للجميع.

وفي الوقت الذي تحصد آلة التدمير، وعجلة الحروب الألوف من الضحايا يوميا فإن السؤال يدور حول احتمالات تغيير مفاهيم البغضاء والكراهية والتعصب التي تترافق مع اعمال القتل الهمجي في العالم، خاصة وأن نتائج الحروب وأعمال القتل، ونتائج الممارسات الهمجية تفوق باضعاف نتائج الكورونا؛ لكننا نشك بذلك ونتطلع الى شفاء العالم.

تحت قوس الثقة بأن ارادة البقاء ستنتصر على نتائج الهجمة الفيروسية ، ومع فجر كل يوم سيكون ضوء الإرادة الحرة منارة تنير دروب الأمل وشعلته علماء في المختبرات ، وجامعات ومراكز بحث تستجلي عقل البحث للاكتشافات ، وارادة إنسانية تشع بمعاني الحرية لتنتصر على الخوف ، وتحجر على الكورونا حيث أقامت البشرية عبر تاريخها أماكن لعزل كل الأوبئة والأمراض التي اعترضت سبيلها بحثا عن جماليات الحياة وكينونة الوجود بمعزل عن حماقات الإنسان ، وبعيدا عن الفيروسات والأوبئة التي باتت جزءا من اختبار الانسان لاكتساب حقه بالحياة.

د. حاتم علامي

Scroll to top