الأخلاق،الارادة والقدر: الوباء وحرب الهوية

مقدمة الكتاب

تجثو مأساة غير مسبوقة على صدر البشرية، وتزلزل الجائحة الجديدة  (pandemic) مقاييس الفكر الانساني الذي كان يبني بداهاته بين الحلم الانساني وتقدم نسبي على خط الازمات التي تعانيها الانسانية. لكن ثقافة جديدة تلوح في الافق هذه المرة. فالكورونا هي في اللحظة الزمانية كابوس تاريخي ضارب، وفي الجغرافيا تسونامي مدمر لكل الاعتبارات والحقائق التي ارتبطت بالعولمة وتجاوز الحدود وخلق هوية فوق جثث الهويات التي أسلمت مصيرها للواقع الجديد دون ان تفقد جيناتها الاثنية، وطبائعها الخلقية، وانتماءاتها المحلية.

تضرب الكارثة في اجتياحها للعالم ساحة بعد ساحة، ومدينة بعد مدينة، شارعاً بعد شارع، وبناية بعد بناية، واخيراً وليس آخراً عائلة بعد عائلة.

تتواصل المواجهة على مستوى القرارات السياسية، وردات الفعل الاقتصادية، والنتائج الاجتماعية في موازاة التدابير الصحية، بكل أبعادها ومستوياتها؛ ومع بعثرة الاجتياح لكل المعطيات ذات الصلة بالتحولات التي بدأت تطل برأسها على الغد القريب والبعيد تحفر الثقافة لذاتها مساقات في كل الاتجاهات الجيوسياسية والفلسفية والفكرية، وتنفجر المنظومة الاخلاقية بكل اقتدارها، وتدخل مع كواشقها الى حقل الكارثة؛ فإلى سكانر الاخلاق كل جهات الصراع تخضع للاختبار هنا مقايسة لصحة المفاهيم التي حكمت الافعال وسلوكياتها، وهنا اختبار لعلاقة الاخلاق بالسياسة؛ وفي تأسيسها للعلاقة بالفلسفة والعلوم لتختبر المنظومة نفسها عبر استعادة البحث في جينات الاخلاق تحفزاً للمرحلة الجديدة.

الجينالوجيا عند مفترق العصر الجديد تفتح لمنظومتها الاخلاقية اكتشاف ذاتها والتجدد، وتفتح كوة في جدار الانغلاق الاخلاقي على مسلمات الحداثة، وتؤمن مدخلاً لدراسة مقارنة بين المدارس الاخلاقية؛ ونحن بأمس الحاجة الى التحليل الجينالوجي بعد ان أحيث المواجهات خيارات لسياسات وسلوكيات نابعة من المصلحة والظروف والمفاهيم الاخلاقية كل على حدة، حيث الجميع منشغل بتوظيف طاقاته في المسارعة الى سياق مع اجتياح الوباء، والكل منشغل بالصراع من اجل البقاء، ومع الصراع للآتي هوية جديدة.

لا شيء خارج الخطر، ولا مسلمات في خلاصة المواجهة-الحرب بعد ان وصلت الحرب الى مراكز القرار، وأصحاب القرار.

انها كتابة تاريخ جديد، هذا التاريخ يستعيد صوراً من المواجهات الوبائية مع الطاعون، والانفلونزا، وسارس، وجنون البقر، وانفلونزا الخنازير، لكن الحقيقة الكونية مختلفة اليوم بعد التحولات التي شهدتها الكرة الارضية، عبر منظومة العولمة، وأنماط الحياة، ومثل الرفاهية والعدل، وشعارات الحرية.

نستذكرها الارتباط العضوي بين تحديات المواجهة، وضيعة القرن العشرين في مجالات ثلاث: الاكتشافات الذرية، التطور الجيني، والتكنولوجيا الافتراضية.

كلها مؤشرات وعوامل، وهي في مواجهة تاريخ جديد؛ مع التأسيس لاتجاهات هذا التاريخ يطل نيتشه مجدداً في فعل تجاوزي  للتاريخ الميتافيزيقي الذي قام على فرضية خلود النفس والحقيقة، وتموضع في الخاصية القيمية والايديولوجيا الدينية والعقل التواصلي لانطولوجيا الانسان. لذلك فإن للجائحة الجديدة أعاصيرها في تقويض المرتكزات، لمصلحة تاريخ يفسح في المجال لتحقيق تاريخ انسانوي جديد لعودة الروح الى الارادة الحرة ومن اجل قدر جديد في عمر البشرية، انها جينالوجيا اخلاقية لتاريخ على قدرالانسان الجديد.

بدا الى وقت قريب ان مركب الرحلة الانسانية يمضي في سلام مرتبك والانسان يتحمل آلامه بصبر وأمل، لكن الوضع تغير فجأة وخرجت رحلة الاجتماع البشري عن سكة السلامة واستلت هوية المولود البشري، وانحرفت مسارات العدالة خلف موجة جديدة في فضاء الاختلافات الوجودية، وطافت تحت سماء المفاهيم والقناعات التي انتقلت مع الانسان منذ عهوده الاولى الى وجهة جديدة في منحى هو اليوم عرضة للسؤال بشأن المصير بين إعادة الولادة، او الهندسة، او القطيعة، وبنوعية خاصة مع كل الحقب التاريخية؛ حيث الثابت  فيها على الارض صورة الإنس في لوحة وجودية تحتفظ بخاصية بشرية بلوحات مميزة في الرؤى والاخلاق والمفهوم؛ وإذا كان هذا الإنس يتطلع الى السماء، فإن السماء تنبئ عن ما ورائيات ومشيئة كونية مسيَّرة، وليس من يدرك بعد فعل هذه المشيئة في المصير الوجودي الذي صنعت عقل صاحبه ونقطة ارتكازه.

ظهر العالم في حالة ضياع في متاهة الدهشة والخوف، وانتفض العقل للبحث في اسرار الشيفرة المطلوب التوصل الى حل رموزها، والتي تشكل عقدة الوصل مع المنظومة القيمية التي تتجسد في النظام الاخلاقي؛ والخارطة التي تحكم وجهة السير تتمثل في البحث عن الذات، والبحث عن الذات هو الشعلة التي تنير دروب الحرية؛ الحرية ميزة الخلق ونعمة الوجود؛ والانسان يمضي العمر والذات الحرة تتلخص بلسعة حرارة الشتاء، وتتقلص اتقاء من خطر يهدد الشخصية المنبثقة بالنعمة لتحقيق الذات بالفكرة والممارسة، بين التنظير والتطبيق. اما الحرية في نبض الحياة فهي دينامية متهيبة للفعل، وأما الفعل فشرطه الارادة؛ والارادة في إحيائيتها قرينة للحرية.

لقد ملأت ألوف الروايات على مدى إحيائية الارادة الحرة كتاب الحياة البشرية، وتبقي صدى الارادات التي تصدح في الكينونة حيّة في ضمائر النفوس الحرة.

واليوم وعلى عتبة ولادة جديدة للانسان الاخلاقي تتحرك كل الادوات المعرفية، والمدركات باحثة عن المعنى بين ركام المفاهيم التي وجدت مسلماتها تتهاوى امام اللعبة المصيرية، وترانا مجدداً نستغيث بالارادة الحرة في ظلال القدرية.

فنحن في المسيرة والذكرى وقع صدى لفعل الارادة، إنها كلمة السر التي استحوذت الاوصاف الدالة على المعنى والقيم، فقد قيل في الارادة اوصاف القوة والصلابة، والحديدية. والعناية في مجالنا تتجه الى صقل هذه الارادة، وحيث ان الارادة هي إكسير جوهرة الاخلاق فإنها موضوع غوص وتحليل في فهم نقاط الخلاف بين البشر من ضمن الإجماع بأن للكل ارادتهم لكن لكل منهم حصته من قوة الارادة، وعلاقتها بالمكونات التي تشكل الشخصية الانسانية، والاناوية في ترجمة الذاتوية، وعلاقة الانا بالآخر.

انها كتابة في “الاخلاق وفتنة الارادة” في الوقت الذي يشهد العالم انتفاضة ارادة الحياة في وجه وباء عالمي يجتاح الكرة الارضية، فقد آثار فيروس Covid-19، Corona حالة غير مسبوقة من الهلع، لكن العالم إذ يستعيد أنفاسه يقف مصارعاً في ترجمة لمعنى الوجود باعتباره صراع إرادات. ليست المرة الاولى التي يواجه العالم تحدياً مصيرياً، ولن تكون الاخيرة. ومع اشتداد المواجهة، ووسط التكهنات المتباينة حول مصير العالم استعاد الهم الانساني النقاشات التي استوقفتنا حول الاخلاق الى مضمار البحث في الهاجس الطاغي على العقل البشري.

إنه تحد مصيري جديد وفي التحدي تتموضع المسألة الاخلاقية في دائرة المواجهة، فلقد قلبت معالم الصراع المفاهيم وأحكام المعنى، خلخلت مرتكزات النمط الحياتي المستمد في منظومة اخلاقية دينية كانت الى اليوم المنطلق والمظلة التي عصفت الرياح بأوصالها وحقائقها دون ان تزيحها من الوجود؛ فمع أعنف المواجهات ضد هذه المنظومة ينقسم العالم بين أكثرية ساحقة تعيش على مبادئ ومعتقدات ترسخت ضميراً وجودياً، في حال من المواجهة والصراع في مساحته الاوسع، وفي انفصام بين هذه الاكثرية، مقابل مجموعة من النخب التي تطل من بروجها على واقع أليم، يستمع بعضهم لصرخات الجوع والفقر وتأوهات الظلم والاستبداد؛ وهم على عروش السياسة التي تنازع بالتضليل بين شعار السياسات الصالحة، وبين انحرافات الفساد والطغيان؛ ومن النخب في الفكر والثقافة  قلة نادرة من أهل الفكر الناشطين في حقول الفلسفة والعلوم تتحفهم أحلامهم بتغيير العقول، وتأخذهم خيالاتهم الى بناء فرضيات لصقل الارادات وتوجيهها الى ما يعتبرونه جزءً من قناعاتهم، والى ما يتناسب مع مقتضيات حجز موقع لهم في الخارطة الفكرية على مستوى العالم، او في نطاق إقليمي ومحلي تبعاً للحالة الثقافية، السياسية، الدينية التي تحكم خياراتهم، وشخصيتهم المتمايزة في إيديولوجيات المساحة بين التفاعل النظرية وممارستها في كنف الواقع الانساني الذي لا يُؤْمَن الى نتائج تفاعله مع التصور والفكرة والنظرية.

في البحث في المستقبل يعود القدر مع حضور كلي مستفيضاً في الخيارات، ومستثيراُ نقاشات على صعيد الفلسفات والنظريات التي كرست لمفاهيمها موقعها الفاعل كثابت من ثوابت الوجود، وكمعيار لتقديم منحى المفاهيم ومبرراتها على طريق البحث عن خلاص لرحلة البشرية.

في الحرب الكونية يستشعر موضوع الأخلاق قوته في مساق انبثاق الإرادة الإنسانية المتطورة في توهج الحرية الفردية المستقطبة لمعنى الخاصية الاجتماعية للكائن البشري؛ وفي اشكاليات المتاهة الأخلاقية صراعات مستدامة بحثاً عن مقاربات لأنسنة الفعل الإنساني في مواجهة الغرائزية التي تستبيح كل المعاني السامية التي تتجسد في الدعوة الى العقلنة في وقت تفتك الحروب والنزاعات والأعمال الوحشية التي تتحدى إرادة الحياة وتطيح بالتنظير العقلاني من اجل منظومة جديدة، والرهان يعتمد على علاقة الارادة بالفلسفة، وتطور علاقتها بالعلوم وتفعيل دور الدين في تفعيل الإيجابية الإنسانية في مواجهة عالم الجريمة والتعصب والرذيلة والجشع والاستبداد، والرجاء ان لا تصح النظرة التشاؤمية بالنسبة الى الشر المتربص بأخلاق الناس.

من دواعي الإيجابية ان يكون الإبحار في عالم الإرادة إعادة تأسيس لصحة العلاقة بين النظريات المختلفة التي تطرقت للموضوع على المستوى الفلسفي، منذ الفلسفة اليونانية، الى كانط، فالفلسفة العقلانية الى شوبنهاور، الى نيتشه وجون لوك، وفلسفة العقد الاجتماعي، والمذاهب الأخلاقية المختلفة؛ وصولاً الى وضع هذه المعطيات في خدمة البحث عن مضمون النظرية في الفكر الإسلامي، والمذاهب القديمة، كل هذا التطور في موضوع الارادة لا يزال في مواجهة مع التصنيفات الرائجة للقدر وتداعياته.

في توصيف مشهدية العلاقة بين القدر والارادة، نبدأ من مقولة الوعي الوجودي مع إيمانويل كانط:

“شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي، انني لست بحاجة الى ان أبحث عنهما وأفترض وجودهما مجرد افتراض كما لو انهما مستتران في الظلمات او في غلواء الحماس خارج افقي. إني أراهما امامي، وانا اربطهما مباشرة بالوعي بوجودي .

بين هنيهات القبض على جزئيات الحياة، وومضة الامل، ومع حبس أنفاس العالم على صوت صفارات الانذار وسيارات الإسعاف، ومع نجوم كانط الوجودية، نعود الى الارادة في القانون الاخلاقي، سعياً الى قدرنا الارادي، وبحثاً في السماء عن أمر لم توفره ارض السياسة والمجتمع والآخر.

ابحاث في الجينالوجيا نبدأها  من حيث استولى نيتشه على مفتاح الولوج الى ارادة الاقتدار، ومن حيث جلس فوكو على شرفة مفترق الطاعون يتأمل في سياسات الحجر؛ في مقاربة للقدر والاخلاق وأحكام الانهيار في صناعة المصير نقرأ في مجموعة من الافكار في عناوين تبحث عن خلاصها في ما هو أبعد من عزل في مصحة، وفي سياسات موبوءة.

Submit your review
1
2
3
4
5
Submit
     
Cancel

Create your own review

الاخلاق،الارادة والقدر: الوباء وحرب الهوية
Average rating:  
 0 reviews
Scroll to top